القدس ضحيةً للوعي الزائف
كتب بواسطة زياد ابحيص
التاريخ:
فى : آراء وقضايا
1308 مشاهدة
نشرت شبكة قدس في 25/8/2018 تقريراً بعنوان "حبل الكذب قصير" وهو يراجع ما أثير في شهر 7/2018 حول مشاركة شركة المقاولات العملاقة ليماك، والتي يملك معظم حصصها رجل الأعمال التركي المعروف نهاد أوزدمير المقرب من أردوغان والذي تقدر مجلة فوربس الأمريكية ثروته بـ 1.4 مليار دولار، والذي كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد اصطحبه بطائرته الخاصة إلى الكويت ليفتتح له مع أمير الكويت مشروع مطار الكويت الدولي الجديد بقيمة تقارب 4.4 مليار دولار.
أوضح تقرير شبكة قدس المذكور أنه بينما نشر موقع المناقصات الرسمي الأمريكي اسم شركة ليماك كجزء من التحالف الفائز بالمناقصة مع شركة ديسبلد الأمريكية، فإن شركة ليماك اكتفت بنفي مشاركتها على لسان أحد متحدثيها، وكذلك فعل مسؤول في شركة ديسبلد، وخلص التقرير أنه في وجود وثيقة صادرة عن الحكومة الأمريكية تؤكد ضلوع شركة ليماك في مشروع السفارة، وبغياب أي وثائق تؤكد زعم ليماك وديسبلد فالواضح بأن الشركتين تستسهلان الكذب طريقاً لنفي هذا العمل المشين عن شركة ليماك التركية.
ما استدعى التوقف هنا كانت ردود الفعل على هذه القضية في العموم، وعلى تقرير شبكة قدس لدى قطاع واسع من نخبة الإسلاميين العرب وجمهورهم، فقد تفاوت بين أربع فئات:
الفئة الأولى: والأكثر تكراراً كانت كيل التهم لشبكة قدس فاعتبرها بعضهم علمانية تركية، وآخرون مقربة من العربية وفوكس نيوز، وآخرون قالوا إنها شبكة وهابية تريد التشكيك في تجربة أردوغان.
الفئة الثانية: كانت الدفاع عن الشركة التركية، وإعادة نشر نفيها المنشور في الأساس على مواقع تركية هي ترك برس ووكالة الأناضول للأنباء وجريدة دايلي صباح –علماً أن تقرير شبكة قدس أوضحَ أن هذا النفي المنشور في هذه المصادر ليس منشوراً على الموقع الرسمي لشركة ليماك ذاتها- وكم هي محظوظة هذه الشركة إذ تحظى مجاناً بجمهور عريض من الناطقين باسمها والمدافعين عنها دون أن تدفع لهم قرشاً واحداً.
الفئة الثالثة: هي التي شككت بالمعلومات، وطالبت بالتثبت، واعتبرت مشاركة ليماك غير ثابتة، وبحاجة لمزيد من البحث والتثبت، قبل أن يعود جزء منهم لينضم للفئة الثانية ويعيد نشر نفي الشركتين باعتباره وجد الحقيقة.
الفئة الرابعة: هي التي صدقت عينيها بناء على ما هو معروض بشكل رسمي على موقع المناقصات الحكومي الأمريكي، وبدأت باستخدام علاقاتها وجهدها لإثارة هذه القضية والتأثير على موقف الشركة.
وإذا كانت الأيديولوجيا تشكل أرضية للاعتقاد الثابت والتحرك المدفوع باليقين وبالتعبئة التي لا تهتز، فإنها من جهة أخرى يمكن أن تشكل مصدراً للوعي الزائف ولرؤية الأمور بشكلٍ متخيل على خلاف حقيقتها، وقد شكلت تجربة هذا الخبر وردود الفعل عليه حالةً دراسية للأيديولوجيا حين تصنع الوعي الزائف:
فالمجموعة الأولى اعتبرت صورة تركيا في ذهنها معتقداً لا تسمح للحقائق التي تخالفه بأن تمر من الحواس إلى العقل، فباتت تلك الصورة أقرب إلى المعتقد منها إلى الإدراك، أما المجموعة الثانية فاعتبرت نفسها جزءاً عضوياً من النموذج التركي وبدأت بالدفاع عنه انطلاقاً من موقعها الذي تتخيله، بل بادرت إلى خلط سلوك الشركة -وهي لاعب اقتصادي مستقل لربما تعارضه الدولة التركية أحياناً- بصورة الدولة والمشروع بالإجمال، فافترض أصحابها أن واجبهم الدفاع فوراً، مهملين أن قضية القدس قضية تمس عقيدة وعروبة كل فردٍ منهم مساساً مباشراً، فتغلبت العلاقة العضوية المتخيلة بالمشروع التركي على العلاقة الحقيقية المباشرة لكل فردٍ منهم بالقدس تديناً وعروبةً، فباتوا هم أيضاً ضحيةً للوعي الزائف.
المجموعة الثالثة قادتها الصورة الذهنية المرسومة للتجربة التركية، لأن تشكك في الملموس بالحواس، فتشكك في بصرها إذ يشاهد وثيقة رسمية أمامه تقول إن شركة ليماك التركية طرف في بناء أعتى مشروع استعماري على أرض القدس، هذا لا يتفق مع الصورة الذهنية للنموذج التركي، فلا بد أنه خاطئ، مرة أخرى السيادة هنا للصورة الذهنية وليست للمحسوسات ولا للمدركات.
في الحالات الثلاث كانت الصورة الذهنية هي العنصر المتحكم: ففي الأولى دفعت الصورة الذهنية أصحابها لخوض حرب قدح وشتم بلا أدنى أساس ودون مناقشة للمدركات وربما دون اطلاعٍ عليها، وفي الثانية وضع المنتمون لها أنفسهم في موقع الدفاع بناء على علاقة متخيلة وعلى حساب علاقة حقيقية قائمة، وفي الثالثة اكتفى أصحابها بالتشكيك في الحواس والمدركات، في الأحوال الثلاثة كانت الصورة الذهنية للتجربة التركية كمشروع أممي رسمته الأيديولوجيا الإسلامية تهيمن على الحواس والإدراك وتعطله وتقود أصحابها في اتجاه مناقض له.
الفئة الرابعة على ندرتها شكلت الجانب الذي احتفظ بعقلانيته، وبارتباطه بالعلاقات الحقيقية بالقدس قيمة دينية وتاريخية وقومية على حساب الارتباط بالمشروع التركي وتأييده انطلاقاً من الموقف الأيديولوجي، فترك الأيديولوجيا مساحة لما يجب أن يكون، والإدراك والمحسوس مساحة لما هو قائم، فبادر للتفكير بكيفية التحقق من زعم شركة ليماك الانسحاب بوثائق واضحة لا تحتمل الشك، وكيفية دفع شركة ليماك إلى الخروج من هذا العدوان إن كانت ماضية فيه.
لقد أغفل أصحاب الفئات الثلاث أعلاه منطقاً واضحاً وقابلاً للقياس لصالح الصورة الذهنية، يقول
أولاً بأنهم يرتبطون بالقدس برباط الدين والهوية والتاريخ، وأن واجبهم يحتم الدفاع عنها ورد من يشارك في العدوان عليها مهما كانت طبيعة تصوراتهم عنه، وبالتالي هي الحكم على غيرها وليس العكس.
وثانياً بأن هناك وثيقة من الحكومة الأمريكية التي أحالت المناقصة، ونفيها يتطلب دليلاً أو وثيقة تظهر عدم المشاركة المزعومة.
وثالثاً بأن الشركة التركية حتى لو لم تشارك في التنفيذ فشراكتها مع مقاول صغير مثل ديسبلد الأمريكية هو الذي أهّل الأخيرة لدخول المناقصة. ومن ساعد المجرم مع علمه بنيته لارتكاب جريمة فهو شريك فيها، وبالتالي فمجرد عدم المشاركة مع إبقاء التحالف هو جريمة بحد ذاته.
ورابعاً بأن ديسبلد كشركة محلية أمريكية صغيرة تحالفت مع ليماك حتى تتأهل للفوز بمناقصات الخارجية الأمريكية، وأن ليماك لو أبلغت الخارجية الأمريكية أنها انسحبت لكانت سحبت المناقصة من ديسبلد وأعادت طرحها من جديد، وهذا ما لم يحصل، ويكون بالتالي دور ليماك ما زال مؤكداً في هذه الصفقة.
ترى من المستفيد من أن تصبح الصورة الذهنية للمشروع التركي بكل هذه السطوة؟ من المستفيد من أن يصبح سعر الليرة التركية محركاً أهم من العدوان على القدس في وعي جمهور الإسلاميين؟ وعلى من تقع مسؤولية تصحيح هذا الوضع المختل؟
المصدر : موقع إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة