لا نزال مهما طاف بنا الزمان وعادت بنا الأيام نفجع بواقعة استشهاده ونعصر القلب قبل دمع العين ..بل لا تكاد تطيق إكمال الصفحة في قصة استشهاده أقلبتها عند ابن كثير أو الطبري أو الذهبي فهي رقعة من الحزن المسفوح للدم المسفوك لسيد شباب الأمة وتاج رؤوسهم بشهادة من لا ينطق عن الهوى ... ولا نزال بما قدّم الإمام الحسين في سبيل أمته ودعوة نبيه وإحقاق الحق وإبطال الباطل عليه شهودا معتقدين وبإيماننا معتنقين أن ما كان عليه رضي الله عنه وجاهد في سبيله ومات دونه خروجا لنصرة الحق وإعلاءه ورفضا استشهادياً لباطل التوريث الذي الحق بالأمة بغياً.. نقولها كما تعلمناها وحفظناها في عقيدة أهل السنة ولا نزال بها حتى تنفرد السالفة موالين لعهد رسول الله وآل بيته وصحبته المطهرين .
وجريمة مجرم الحرب الأثيم يزيد بن معاوية عليه من الله ما يستحق في حق الحسين متواترة تأثيمها في كتب السُنة , وما كان السلف رضي الله عنهم يوردون ذكره إلاّ اتبعوه بالسب والانتقاص وأثاروا الوجدان والبراءة من عمله وغدره وفجوره وما قلبت من مصادر التاريخ السنية إلا رأيت ما قرروا فيه تجريمه ولم تزّل قدمٌ نعرفها من علماء أهل الُسنّة المتقدمين المعتبرين فيعتذر للمجرم الأثيم وخطيئته في حق الأمة وما أصابها من حكمه وفي حق سيد شبابها وجدان المصطفى وزهرة آل البيت الحسين بن علي سلام الله عليه .
ولكننا نرى في دروس الحسين ما هو أعظم من التطبير واعزُ مقاما ووفاء لأبي عبد الله سلام الله عليه من المنائح , ونرى فيه قدوة تاريخية للأمة اكبر من اللطم عليه والتطبير , فلنتحدث عنه و دروس الإمام كزعيم إصلاحي مجدداً لآثار النبوة وهدي الراشدين في إمامة العدل والحق .
إن مما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم منهجيتين تهمنا في استلهام الدرس من موقف الإمام الحسين عليه السلام وهو تأكيده على أن أول انحراف يمس رسالة الإسلام وحال أمته هو نقل الحكم من الخلافة الراشدة إلى المُلك العاض ومن ثم الحكم الجبري بل انه صلى الله عليه وسلم ذكَر بأنّ أول ما يُنقض من آثار النبوة هو العدل المرتبط باختيار الأصلح للأمة وهو ما تعاقبت عليه واستقرت وظهر فيه قوة المبدأ في العهد الراشد وبالذات في عصر الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما .
ومن بعد عمر قعّد لهم رضي الله عنه قاعدة الانتخاب باختيار صفوة معروفين وهذه الحالة في التعيين إنما تُقدّر بقدر الحالة الزمنية والظروف المكانية بمعنى أن قاعدة الانتخاب هي الأصل وحين تتوفر إمكانية تحقيقها بأوسع مدار لاختيار الحكم الراشد تنفّذ , وهي في حالة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه تُشكّل تطور تاريخي في سبقٍ زمني لثقافة الأمم ومنهجيتهم في تقعيد الشراكة الشعبية , وما تعنيه هذه القاعدة الانتقائية من الخبرات الثقات لتحديد التوازن في الهيئة الانتخابية التي شكلها عمر تعكس هذا المعنى المتقدم سوى أن ما يجري بعد عهود التزكية الأولى لآثار النبوة التي تعاضدت النصوص النبوية على تحريرها ليس له ما ورد في فضل الشيخين وما أدركت الأمة من عهد مثالي في تقوى الحاكم و إشفاقه من خشية أن يمس شعب أمته أو من في ذمتهم من غير المسلمين أي ظُلمٍ أو حيف .
وعلى ذلك جرى عهد عثمان وان كان تسامحه رضي الله عنه وسّع تدخل الإقطاعيين وتمددهم إلا أن فضله وعدله ورأفته بأمته وشعبه وصلت إلى الحد الذي يناشدونه أهل البيت سلام الله عليهم أن يأذن لهم بمقاتلة أهل البغي الذين يحصرونه وأهله ويأبى أن يُمس فرد من أبناء شعبه وأمته حتى ولو كانت النتيجة تهديد حياته وهو ما جرى حين فُجعت الأمة بحدث تقشعر منه الأبدان والوجدان فيذبح أمير المؤمنين حبيب رسول الله ويندفع دمه على مصحفه ومسجده , هنا يبرز لنا حجم عظمة عثمان في هذه الروحانية التي تُعلي عملياً وتنفيذياً مسئولية الإمام ورفقه بأمته لدرجة أنّ الصحابة وآل البيت رأوه مفرطا رضي الله عنه بأمنه إلا أنهم التزموا أمره فمضى حيث بشره رسول ربه صائماً يُفطر عند رسول الله وبنتيه زوجتي الخليفة الشهيد عثمان رقية وأم كلثوم عليهم السلام .
وعلى هدي العدل والحزم كان أمير المؤمنين عليٌ عليه السلام ولولا الفتن لكان عهده من عهد الشيخين وما رسخ في زمنهما من واقع الاستقرار ولكن الفتن التي أُشعلت في وجهه وتعجّل المطالبين بالثأر لعثمان في غير حق متأولين كما هو موقف الزبير رضي الله عنه وأم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها وهو ما اعتذرت عنه فيما بعد وهناك من أثاروها قاصدين لغَرضٍ خاص فقد خالفوا القاعدة الشرعية للزوم طاعة أمير المؤمنين علي وما كان ليُفرط بدم عثمان وحاشاه لكنهم لم يمهلوه ومع ذلك كان أبا الحسن في سيرته وروحانيته ومنهجية عدالته في السمو الأعلى للقيادة السياسية الإسلامية الأمينة للأمة .
وأمام هذه المدارس الكبرى عاش الحسين عليه السلام يُدرك منازل الحق ومنارات الهدى لحق الأمة في الحكم الرشيد وان هذا الانحراف الذي قرر رسول الله خطورته لا يجوز أن يبقى دون أن يُبطل أو يُجاهَد ويُكافح حتى تستدعي الأمة مقام العدل وحقوق الرعية وانتخاب الصالح ونبذ الفاسد ولا تُعطي الدنية في دينها لكونها امة البلاغ للخلاص والعدل , ولذا خرج مُجدِداَ ناقضاً لثقافة إقرار الاستبداد أو التسليم لتولية فاسد ظالم على عهود المسلمين وخاصةً بان ذلك في الصدر الأول فيُشرّع الظلم وتولية الفساق على انه من التشريع الديني , بل كان الاحتجاج العسكري عليه الذي قاده الحسين الأول في درسه وعهده , وعليه فان خروج الإمام على ظالم فاسد في الصدر الأول هو من تجديد الدين ورفض ما يعلق به أو يُقّر تشريعيا وهو في ذلك رضي الله عنه مجدِداً لآثار النبوة , وكونه خرج وهو يرى في نفسه أهلاً للولاية لإقامة العهد بالعدل وليس لتوريث الأنبياء لذريتهم عقباً بعد عقِب وهو ما لم يرد في سيرتهم صلى الله عليهم وسلما لكون أن مفهوم تحويل الأمة إلى ميراث لآل الأنبياء يصطدم مع أصل فكرة التوحيد وإقامة الرسالة وكونها هي مهمة الأنبياء وحواريهم ومن بعدهم وليس توريث ذريتهم , وهو أيضاً يصطدم مع منهج الاستدلال الحضاري وبناء شريعة العدل وتكافؤ الفرص وسيادة العدل الأمين وهي مقاصد تواتر عليها النصوص وأنها الأصل ولذا لم ينص رسول الله صلى الله عليه وسلم نصاً قطعيا في خلافته رغم العشرات من الإيحاءات التي تُزكي أبي بكر رضي الله عنه .
فخروج الحسين وفقاً لهذا السياق لا يقدح فيه أن يطلب الأمر لنفسه ففي ذلك صلاح امة جده وهديها فيما يُستنتج باجتهاده , وان كان الصُحبة رضي الله عنهم استشعروا أن الشوكة لدى الإقطاعيين الفاسدين لا تزال قوية رغم إجماعهم على فساد من تولى وان الحسين لا يُقارن بذكره يزيد , فضلاً عن أن يقال أن الحسين خيرٌ منه , وتقديم الحسين مبادرته وما يعلمه من احتمالية استشهاده ومن ثم إصراره على مبارزة الطغاة دون أن يُعلن وهو المجدد انه يتنازل لهم كان معهدا ومشهدا لا يفي تصويره بمعانيه لكن المهم غير المشهد الجنائزي هو الوعي الفلسفي بمعنى معركة الحسين عليه السلام مع الباطل وإقامته لشرعة الحق وان استشهد في سبيله .
إنني اعتقد أن احترام الإمام الحسين ورسالته لا يليق معها أن يحول ذلك الفكر التجديدي العظيم إلى منائح جنائزية فكيف وقد تحوّلت ذكرى الحسين عند البعض بعد تطوير بعض الطقوس الى حشد وحقنٍ يملأ النفس غلاً على شركاء القبلة والوطن وأضحت عند البعض مادة خطيرة تصنع وتُشرّع مادة القتل للمدنيين والأطفال كما جرى ويجري في سوريا تحت هتافات تلك المنائح والثارات, ويسترزق منها قومٌ مادياً لا علم لهم ولا وعي وكل ما يسعون اليه مصلحة مالٍ او جاه , فيُديرون احاديث ويعمرون سلوكيات رفضها العقل والدين وائمة آل البيت المهتدين ثم يوغرون الصدور , ثم يقع المحظور من القتل والقتال كما تعيشه الامة في بعض بلدانها اليوم .
ولا نقصد مآتم العزاء المعتدلة وإنما ذلك التفويج لدمج نثر الدماء مع التحريض الملتهب للكراهية وان كانت اللوعةٌ على الحسين وقبله الرسول العظيم وعمر وعثمان ووالد الإمام علي لا يغادرها الزمن ولكن مع الاعتدال في التعبير العاطفي وهو ما يليق برسالة الحسين فان استخلاص الدروس من سيرته رضي الله عنه هي ما تُعلي كرامة الأمة بتعظيم الحسين وما خرج في سبيله وهي كذلك خطاب يوحّد ويُعزز بالحق و أيم الله إن كان آل بيته صلى الله عليه وسلم وآله إلا دعاةً للحق والوحدة وما كانوا وحاشهم سدنة جنائز ولا لعّانين لشيوخ الصُحبة المهديين وإنما سادة خطاب وتبليغ ونور مبين ..سلام الله عليهم وعلى الحسين شهيدهم وشهيد الأمة أجمعين.
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة