الدور الريادي للمرأة المسلمة في الحياة
كتب بواسطة د. أحمد سعيد صالح عزام
التاريخ:
فى : المقالات العامة
1641 مشاهدة
كان لبزوغِ شمس الإسلام، في الجزيرة العربية خاصة وفي المعمورة عامة، أثرٌ واضحٌ في دفع المرأة لتأخذ مكانها الطبيعي في الأسرة والمجتمع البشري على السواء، بعد أن عاشت ردحًا من الزمن مغمورة مقهورة مسحوقة، في بعض المجتمعات - كالمجتمع العربي الجاهلي - وسلعة ممتهنة ومرتعًا للشهوات في مجتمعات أخرى - كالمجتمع اليوناني - فلما بزغ نورُ الإسلام على أهل الأرض، أخذَت المرأة مكانها الحقيقي والفطري في الأسرة والمجتمع بكل جرأة، لا تبالي بالنظرات السلبية التي كانت تَرمقها من أهل الجاهلية، سواء جاهلية العرب في الجزيرة العربية، أو جاهلية الأمم الأخرى التي كانت تتخبَّط في ظلمات بعضها فوق بعضٍ.
وبدأت الآيات القرآنية تتنزَّل على النبي صلى الله عليه وسلم، توجِّه الرجل والمرأة على السواء، وتصحِّح النظرات السلبية التي خلَّفتها النصوص المحرَّفة في الكتب السماوية السابقة؛ كنظرة التوراة التي حمَّلت المرأة المسؤولية الكاملة في خروج آدمَ من الجنة، بينما القرآن صحَّح هذه النظرة وحمل الاثنين الذنب ونتائجه؛ قال تعالى: ﴿ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 22، 23].
أما في النصرانية المحرَّفة، فلم تكن أسعدَ حالًا، فقد كان رجال الدين يصرِّحون بالتشاؤم من المرأة، حتى قال بعض كبارهم في وصف المرأة: (إنها شرٌّ لا بد منه، وآفة مرغوب فيها، وخطر على الأسرة والمجتمع).
فنزلت الآيات القرآنية لتُكرم المرأة، وتَجعلها مع الرجل في الكرامة والمسؤولية: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾ [الإسراء: 70]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾ [النساء: 1]، ووضعها في مصاف الرجل في الفاعلية في الحياة، لتتبوَّأ مكانًا رياديًّا في العمل للدنيا والآخرة: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]، والحياة الطيبة في الدنيا والآخرة: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ﴾ [مريم: 96]، بل وضع لهما هذا القانون الرباني قبل أن تغادرَ أقدامُهما الجنة إلى الأرض: ﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 123، 124]، والخطاب واضحٌ أنه كان لآدم وحواء على السواء، ورسم لهما الطريق، ودفعهما ليبذل كلٌّ منها غاية الجهد للوصول إلى السعادة، وعدم الشقاء في الدنيا والآخرة، وبهذا الخطاب الرباني فهِم كلٌّ من الرجل والمرأة أنه حمل المسؤولية الملقاة على عاتقه، وأنه في حَلبة العمل والاختبار، فإما أن يحتل مكانه الريادي، وإما الهبوط إلى الانحدار والتخلي عن هذه الريادة، فكان نور الآيات القرآنية ولا زال يُغذي نشاط المرأة ويحثها على العمل والانطلاق في الحياة، وإعمار الدنيا والآخرة، وإحياء المجتمع وصناعة الحضارة الإنسانية الجديدة.
ومن هنا وجدنا المرأة المسلمة عبر التاريخ رائدةً في مجال الأسرة والقيام بالواجب في حياة الإنسان أثناء مراحل حياته الأولى، لينشأ على ما تربَّى عليه، فكان ذلك أعظمَ السبب في استتباب أمنِ الأسرة ونشر السعادة الزوجية والأسرية.
ووجدناها رائدةً في إعانة الرجال حين يَعجِزون عن العمل لسببٍ ما، فيسرد القرآن قصة شعيب وبناته؛ حيث تتولَّى بناته مسؤولية البيت بعد عجز الوالد ودخوله في سن الشيخوخة: ﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ﴾ [القصص: 23].
ووجدناها رائدة في مجال العقيدة والثبات على المبادئ: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾ [التحريم: 11، 12].
ووجدناها رائدة مماثلة للرجل تمامًا في مجال العبادات والتقرب إلى الله والعمل الصالح؛ حيث تدفعها الآيات دفعًا إلى المستوى الراقي: ﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 35].
ووجدناها فدائية تخاطر بنفسها - كأسماء بن أبي بكر - وهي تقدِّم الدعم للرسول صلى الله عليه وسلم ورفيقه أبو بكر رضي الله عنه في طريق الهجرة.
ووجدناها رائدةً في أخطر الظروف من حياة الدعوة، فكانت أم سلمة مثلًا أعلى للنساء في قصة الحديبية، حين اعترض الصحابة على بعض بنود الصلح، (فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتابة المعاهدة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «قوموا فانحروا ثم احلقوا»، فما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقُم منهم أحدٌ، دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لَقِيَ من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله، أتحب ذلك، اخرج ثم لا تكلِّم أحدًا منهم كلمة، حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرَج فلم يكلِّم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا، فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًّا"[1].
وبهذه المشورة، وبإشارة أم سلمة - النابعة من حكمة وتجربة عميقة - كانت سببًا في إنقاذ الصحابة من مهلكة عظيمة.
ورأيناها رائدةً أثناء الغزوات والمعارك مع الكفار، والدفاع عن نفسها وعن الدعوة وصاحبها، كما فعلت أم سليم بنت ملحان رضي الله عنها، فعن أنس رضي الله عنه أن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجرًا، فكان معها، فرآها أبو طلحة، فقال: يا رسول الله، هذه أم سليم معها خنجر، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذا الخنجر؟»، قالت: اتخذتُه إن دنا مني أحدٌ من المشركين، بقرتُ به بطنه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، قالت: يا رسول الله، اقتُل من بعدنا من الطلقاء انهزَموا بك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أم سليم، إن الله قد كفى وأحسن»[2].
ورأيناها رائدةً في مجال النقاش والجدل، واحترام الرأي والذات، وعدم الاستسلام لكل ما يُلقى عليها من أمرٍ أو توجيه، حتى رأينا نساء النبي تناقش وتجادل الرسول - فيما لا نص فيه صريح أو أمر رباني ملزم - حتى تصل إلى القناعة الذاتية: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ ﴾ [المجادلة: 1].
وروِي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده نسوة من قريش يُكلمنه ويستكثرنه، عالية أصواتهنَّ على صوته، فلما استأذن عمر بن الخطاب، قُمنَ فبادرن الحجاب، فأذِن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عمر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنَّك يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عجبتُ من هؤلاء اللاتي كنَّ عندي، فلما سمعنَ صوتك ابتدرنَ الحجاب»، فقال عمر: فأنت أحقُّ أن يَهبنَ يا رسول الله، ثم قال عمر: يا عدوَّات أنفسهنَّ أتَهبنني ولا تَهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلن: نعم، أنت أفظُّ وأغلظُ"[3].
والرواية تشير بوضوح إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمنح النساء الفرصة الكافية والجرأة في الجدال والنقاش للوصول إلى الحقيقة والقناعة.
ومع هذه الريادة والمنزلة التي وصلت إليها المرأة في الإسلام، فإنها لم تخسر طبيعتها وأنوثتها كما هي حال المرأة في الحضارة الغربية اليوم؛ لأن المرأة مهما انطلقت وشاركت الرجل، واندفعت لمزاحمته في ريادتها وقيادته للبشرية، فإن خصائصها الأنوثية تبقى مسيطرة عليها لا محالة، بحكم خِلقتها التي فُطرت عليها؛ يقول د. ألكسيس كاريل: "إن المرأة تختلف اختلافًا كبيرًا عن الرجل، فكل خلية من خلايا جسمها تحمل طابَع جنسِها، والأمر نفسُه صحيحٌ بالنسبة لأعضائها، وفوق كل شيء بالنسبة لجهازها العصبي، فالقوانين الفسيولوجية غير قابلة للين مثل قوانين العالم الكوكبي، فليس في الإمكان إحلال الرغبات الإنسانية محلها، ومن ثم فنحن مضطرون إلى قبولها كما هي، فعلى النساء أن يُنمينَ أهليتهن تبعًا لطبيعتهنَّ دون أن يحاولنَ تقليد الذكور، فإن دورهنَّ في تقدُّم الحضارة أسمى من دور الرجال، فيجب عليهن ألا يتخلينَ عن وظائفهن المحددة"[4].
[1] الرواية أخرجها البخاري في صحيحه، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، برقم (2731 )، (3 /193)، من رواية عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، رضي الله عنهم، الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه = صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي، تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، الطبعة الأولى، 1422هـ.
[2] أخرجه مسلم في صحيحه، باب غزوة النساء مع الرجال، برقم (1809)، (3 /1442).
[3] أخرجه البخاري في صحيحه، باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي رضي الله عنه، برقم (3683)، (5/11)؛ الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه = صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي، تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، الطبعة الأولى، 1422هـ.
[4] د. إلكسيس كاريل، (الإنسان ذلك المجهول)؛ تعريب: شفيق أسعد فريد، مكتبة المعارف، بيروت ص 109.
المصدر : الألوكة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة