تجديد الخطاب الديني.. دعوة لإهدار “حقيقة الإسلام”
“حين ألقيتُ نظرة على المشاركين في اللقاء وجدتّهم 29 شخصا دُعوا من ثمانية أقطار عربية، وجدتّ أن 85% منهم من غُلاة العلمانيين والشيوعيين السابقين، أحدهم اعترض ذات مرة على ذكر اسم الله في مُستهلّ بيان صدر عن مؤتمر عُقد في صنعاء، والثاني ألقى محاضرة قبل أشهر في جامعة برلين الحرة بألمانيا شكّك فيها في أن الوحي مصدر القرآن”.
لعل القارئ سيعيد قراءة العبارة مرة أخرى عندما يعلم أنها للكاتب المصري صاحب الاتجاه القومي العروبي “فهمي هويدي” في جريدة الأهرام سبتمبر 2003، وليست لأحد الإسلاميين.
وربما يعيد القارئ تكرار قراءتها عندما يعلم أن الكاتب قالها في معرض التعليق على أصناف المشاركين في إعلان باريس حول سبل تجديد الخطاب الديني الصادر عن لقاء نظمه مركز القاهرة لحقوق الإنسان في باريس في غشت (أغسطس) من نفس العام، مبديًا دهشته تجاه احتضان فرنسا مؤتمرًا لتجديد الخطاب الديني الإسلامي بتمويل أوروبي.
وزير الدفاع الأمريكي الأسبق رامسفليد، كان أحد أبرز المهتمين بتطوير الخطاب الديني الإسلامي، وحمّل المدارس الدينية مسؤولية التشدد، ورأى أن هذا الواقع يُعرقل التعايش بين هذه الشعوب وأصدقاء أمريكا وحلفائها في المنطقة وعلى رأسهم الكيان الإسرائيلي.
وقطعًا لم تشمل الأنشطة الأمريكية لتجديد الخطاب الديني سوى الدين الإسلامي، فلم نسمع عن تجديد الخطاب الديني اليهودي ولا المسيحي ولا البوذي….، وألزمت أمريكا الأنظمة العربية الحليفة بتبني تجديد الخطاب الديني الإسلامي، وصادف ذلك ميولًا وقناعات مسبقة للمُتأمركين والتغريبيين والعلمانيين، فدقُّوا الطبول لقبول تلك الدعوات.
وليس من قبيل المصادفة أن تكون أكثر الأنظمة العربية انبطاحا للبيت الأبيض هي أكثرها تركيزًا على قضية تجديد الخطاب الديني، ولذا تُقنع تلك الأنظمة الشعوبَ بمسؤولية النصوص الإسلامية عن التطرف والإرهاب، وأنّ عليها الإذعان لذلك التجديد ولو كان على حساب الثوابت والنصوص قطعية الثبوت والدلالة.
تضمن دعوات التطوير والتجديد للخطاب الديني، ضربة جديدة للإسلام، حيث إن حقيقة هذا التجديد هو اختزال حقائق الإسلام وأصوله وفروعه، وتطويعها بما يناسب التطوّرات على الساحة الدولية.
وحول ذلك يقول محمد شاكر الشريف: “تغيير الخطاب الديني: المحتوى والمضمون وليس الطريقة أو الأسلوب، ليُجاري التغيرات السريعة في واقع المجتمعات داخليا، وفي العلاقات بين الدول خارجيا، بحيث تصير قضية الخطاب الديني هي إقرار هذا الواقع وتسويغه وتسويقه، والتجاوب معه كلما تغيّر.
وعلى هذا فالتجديد عند دعاة التجديد المزعوم هو إجراء التغيير كلما احْتِيج إليه، في أصول هذا الدين وفروعه، لتتوافق مع تغيّرات قيم هذا العصر ومعطياته ومنطلقاته المستمدة من الثقافة الغربية المعاصرة التي هي نتاج تفكير بشري محض، ليس للوحي المعصوم أثر فيه، إضافة إلى خليط رديء من تحريفات اليهود والنصارى ووثنية الرومان”.
فكما أراد القرآنيون هدم الدين عن طريق الدعوة إلى الاقتصار على القرآن دون السنة، أراد دعاة تجديد الخطاب الديني تطويع الإسلام لمسايرة الغرب والتعايش وفق قيمه.
أتدرون من هم دعاة تجديد الخطاب الديني؟
وكثر الحديث عن تطوير الخطاب الديني بعد تفشي مصطلح الإرهاب الفضفاض، والذي تتحدد معالمه وفق قواعد المصالح الغربية ورؤى الزمرة العلمانية في الأمة الإسلامية والعربية، فهرول المنخدعون والمغيبون وراء هذه الراية البراقة.
تجديد الخطاب الديني لدى الغرب وأذنابهم من العرب يعني علمنة بلاد الإسلام، وفصل الدين عن شؤون الحياة، بحيث يكون الدين عبارة عن مجموعة من القيم الروحية وعلاقة بين العبد وربه في المسجد.
لا يريدون للإسلام أن يكون كما أنزله الله منهاجا للحياة، يسوس الدنيا، ويُهيمن على مناحيها.
يريدون مسلمين بلا إسلام، بعد تفريغ الإسلام من محتواه.
تجديد الخطاب الديني لديهم، يعني تذويب العقيدة الإسلامية في العقائد الأخرى تحت شعارات الإنسانية والحوار مع الآخر وتقارب الأديان، ولذا يعوّلون على المتصوّفة والطُرقيين (أصحاب الطُرق الصوفية) لتأصيل مبدأ وحدة الأديان، والذي تشكّل لدى هؤلاء الصوفية بسبب التوغّل الفلسفي في عقيدتهم.
أصدرت مؤسسة راند الأمريكية تقريرا في 2002، قالت فيه: “العالم الإسلامي المفضل، مُلزم بالمساهمة في منع أي صدام للحضارات” ثم يستطرد التقرير: “من الحكمة والاتزان تشجيع تلك العناصر المتواجدة في داخل الخلْطة الإسلامية، التي تُظهر أكبر قدر ممكن من التعاطف والانسجام تجاه السلام العالمي والمجتمع الدولي والديموقراطية والحداثة”.
تقرير آخر لنفس المؤسسة عام 2007 بعنوان “بناء شبكات مسلمة معتدلة”، يؤكد على ضرورة احتواء المد الإسلامي عن طريق إدارة صراع فكري تقوم به بعض التيارات الموجودة في المجتمعات الإسلامية كالعلمانيين والحداثيين وما أطلقوا عليه التيار التقليدي المعتدل، والذي يتمثل في الطرق الصوفية والمغرمين بالأضرحة.
فالنموذج الإسلامي المرغوب فيه، هو الذي يتوافق مع التوجّهات الأمريكية والغربية بصرف النظر عن ماهيتها.
تجديد الخطاب الديني لديهم يعني إلغاء مصطلح الجهاد من القاموس الإسلامي، لأنه مرادف للإرهاب والتطرف والعنف.
إذا كان هناك من تجديد للخطاب الديني، فينبغي أن يكون في العودة بالإسلام إلى منابعه الصافية الأولى.
التجديد في بيان شمولية الإسلام لجميع مناحي الحياة، والتجديد في ربط الإطار الأخلاقي والقيمي بالعقيدة والعبادة، والتجديد في فهم الإسلام باعتباره دينا ودولة، باعتباره مستلزما لنهضة حضارية تعتمد على الإيمان والقيم والبذل والجهد.
إننا كمسلمين لا نعترض على التجديد كُليةً، والنبي صلى الله عليه وسلم قد صح عنه في الحديث الصحيح أنه قال: (إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا)، ولكن هذا التجديد لا يعني مُجاراة الأهواء، وإنما معناه إحياء ما اندثر منه، وتنقيته من المُحدثات، وردّه إلى حالته الأولى في عهد النبوة، وهذه النسخة كفيلة في حد ذاتها بالتعايش الإنساني وإقرار قيم العدل والسلام والحق والخير.
نقبل بتجديد الخطاب الديني إذا كان معناه تنقية التراث الإسلامي من الروايات الموضوعة والمكذوبة، بل هو مما تضافرت في العناية به جهود المصلحين، فأي خير فيما هو مبثوث ببعض كتب التراجم والطبقات من حكايات أسطورية عن الأولياء والزاهدين لا يقبلها العقل ولم يصح لها سند؟
نقبل بتجديد الخطاب الديني إذا كان معناه مواجهة المفاهيم المغلوطة الدخيلة عن العلاقة المُحرّفة بين الدين والدنيا، والتي قسمت الناس إلى فريقين، فريق عزف عن الدنيا بحُجّة تعارضها مع الدنيا، وفريق آخر أغرق في المادية.
نقبل بتجديد الخطاب الديني إذا كان يعني الارتكاز على الإسلام كفكرة مركزية لإحداث نهضة حضارية تعتمد على منظومات الإيمان والقيم والإنتاجية والفاعلية، لأنه بالفعل يملك مُقومات هذه النهضة وله تجربة فريدة في السباق الحضاري.
نقبل بتجديد الخطاب الديني إذا كان معناه مواجهة التعصب المذهبي وحمْل الناس على خيارات فقهية محددة وتسفيه غيرها في دائرة الخلاف الواسعة والتي هي موارد الاجتهاد وفيها توسعة على الناس.
نقبل بتجديد الخطاب الديني إذا كان معناه تطوير أساليب الدعوة والتلقين وفق مُتطلبات الواقع المعاصر دون التغيير من صفته أو طبيعته، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
المصدر : هوية برس
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة