كاتبة
لماذا نصوم؟
أيام مباركة تهلّ علينا، ونحياها دون أن ننتبه لأهميتها في عملية التغيير المرتقب، والتي تعمل عليه الأمة من شرقها لغربها أعقاب فترة من التيه والغياب، استمرت لمئات من السنين لأسباب مختلفة دفعت فيها أمة الإسلام ثمناً باهظاً جرّاء تنازلها عن تلك الهوية، وغيابها الغير متعمد عنها.
وها هو شهر رمضان المبارك تهلّ رياحه الطيبة علينا، بينما ما زلنا نتساءل ونجتهد في ذكر سبب تشريع الصيام من رب العالمين، لنذكر نفس الأسباب ونتوارثها ونعلمها أبناءنا في وقت نحن وهم أحوج ما نكون فيه لمعرفة الدروس العميقة من قيمة تلك العبادة، وأثرها في نهضة الأمة وتوحيدها, وتوجيهها وتربيتها على قيم سماوية ربانية تقويها وتأخذ بيدها إلى سواء السبيل.
ولقد شرع الله عز وجل الصيام في شهر شعبان في السنة الثانية للهجرة، أي بعد أن صار للإسلام دولة في المدينة المنورة، وصار للمجتمع الإسلامي معالم وقوانين ووجهة وغاية وجيش مكوّن من كل مسلم ينطق بالشهادتين، وفرضه الله في سورة البقرة في قوله: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}[البقرة، الآية: 183]، ولم يفرض في بداية الدعوة بمكة رغم معاناة المسلمين في فجر الدعوة من بطش قريش وتعذيبها، بمعنى أن المسلمين كانوا قادرين على تأدية تلك العبادة، فهي أهون بكثير مما لاقوه من تعذيب وعنت من مجرمي المشركين، مما يوضح أن الغاية من الصيام ليس تعملية تعذيب جسدي أو حرمان نفسي يفرضها الله على عباده المؤمنين، وإنما هناك غاية أخرى لأجلها فرض الله عبادة الصوم، غاية تتصل بكون الجماعة المؤمنة هي جماعة مترابطة قوية متساوية، منظمة قوية متحدة.
الغاية من الصيام لا تتمثل بعملية تعذيب جسدي أو حرمان نفسي يفرضها الله على عباده المؤمنين، وإنما هناك غاية أخرى لأجلها فرض الله عبادة الصوم، غاية تتصل بكون الجماعة المؤمنة هي جماعة مترابطة قوية متساوية، منظمة قوية متحدة
وفي الوقت الذي نجيب فيه على أبنائنا لماذا نصوم، بأن الصوم ليشعر الغني بالفقير، فيتصدق عليه، أو أن نشعر بالجوع لنحمد الله على نعمة الشبع، فلا ندري كيف نجيب إذا سألوا: ولماذا يصوم الفقير إذن؟
أو لماذا يصوم من يشعر بالفقراء دون أن يجوع ويتصدق عليهم بالفعل دون أن يعاني حرمانه من الطعام والشراب، وكل ما حرمه الله عليه أثناء الصيام؟
وهنا لا بدّ من جواب آخر، والبحث عن السبب الحقيقي الذي من أجله قد فرض الله تلك الفريضة الغالية، ووهب من أجلها الأمة شهراً من أعظم الشهور، وهو شهر رمضان المبارك.
(لعلكم تتقون)
إن الجواب يتمثل في قول الله تعالى حين فرض الصوم، وذكر سببه، وحدّده في كلمتين واضحتين هما: {لعلكم تتقون}.
والحديث موجّه للأمة بصيغة الجمع، فكما شأن العبادات الإسلامية كلها كعبادات جماعية كانت فريضة الصيام، وكان الغرض منها "التقوى" كصفة ملازمة للجماعة المسلمة، المنوط بها تغيير خارطة العالم برفع راية الله عز وجل في العالمين، ولن يكون ذلك إلا بالتقوى، وكلمة التقوى وردت كثيراً في كتاب الله وأحاديث رسوله، وقد جعلها نبي الإسلام أداة التمييز الوحيدة بين البشر، فلا فضل لعربي على أعجمي، ولا فضل لأبيض على أسود إلا بالتقوى والعمل الصالح، وليس شيء كالصوم يوقظ التقوى داخل النفس المؤمنة، فهو يمتنع عن الطعام الذي يراه ولا يستطيع أن تمتد يده إليه، ليس خوفاً من الناس أو رياء لهم، أو طلباً لمغنم، وإنما تقوى وخشية لله عز وجل، فلا أحد يطلع عليه سواه، ولا أحد يجزيه على الصوم سواه.
فهو تربية للفرد المسلم، والجماعة المسلمة، والأمة المسلمة على إحياء مراقبة الله عز وجل داخل النفس، واستحضار معيته، واطلاعه على أدقّ تفاصيل ذاته التي يحرص على تطهيرها أثناء فترة الصيام؛ كي لا يضيع صيامه ، وقد قال نبيه عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: (ربّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، وربّ قائم ليس له من قيامه إلا السهر) (رواه ابن ماجه وغيره).
وتتجاوز الأمة بالصيام مجرد الامتناع عن تناول الطعام؛ لتحوله لفعل أخلاقي، فيقول نبينا عليه الصلاة والسلام: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) (رواه البخاري)، ويقول عليه الصلاة والسلام كذلك: (الصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فيقول: إني امرؤ صائم، إني امرؤ صائم) (رواه الشيخان)، فالتقوى عمل قلبي، يترجم إلى عمل بالجوارح بكفها عن الآثام وإقبالها على الطاعات .
الصيام والتغيير المنشود
وليس شيء كالصيام يعلم الأمة الصبر والقدرة على التحكم بالأمور ، خاصة وأنها قد عانت طويلاً من حالة فقدان الثقة بالذات، ومن عدم إيمانها بقدراتها على التغير والنهوض نحو مستقبل يليق بما تحمله من منهج شامل، يؤهلها لقيادة البشرية، لقد فقدت الأمة إيمانها بذاتها حين فقدت روح دينها، وحين جهلت أسباب وجودها، وحين حوّلت العبادات إلى مجرد عادات فارغة من مضمونها التي فرضت من أجله، وفريضة الصيام وشهر رمضان من أكثر العبادات التي تقوي النفس، وتقهر الغرائز، فيقوي المسلم نفسه بأدائها نفسه، ويعزز من قيمتها وقدراتها.
لقد فقدت الأمة إيمانها بذاتها حين فقدت روح دينها، وحين جهلت أسباب وجودها، وحين حوّلت العبادات إلى مجرد عادات فارغة من مضمونها التي فرضت من أجله
يضاف إلى ذلك أن الأمة التي تتوحد قبلتها، ويتوحد فعلها، ويتوحد هدفها، وتتوحد وسائلها، كيف يمكن أن تكون أمة ضعيفة؟ أو كيف يستقيم أن تكون أمة متناحرة؟ كيف بمؤمنين يتوقفان عن الطعام والشراب خشية لله، ثم يلتقيان بسيفيهما؟ كيف بأمة تمتنع عن فعل أمر ما، وتقدم على آخر حسبة لله ثم تختلف فيما بينها، إن الأمة قد خسرت خسراناً مبيناً حين جهلت مقاصد عباداتها، فلم تقيمها، وإنما اكتفت بتأديتها .
رمضان شهر الانتصارات
ولذلك فقد ارتبط شهر رمضان المعظم في تاريخ المسلمين بصناعة البطولات، والانتصارات، ومثل قدوم الشهر الانتقال بالأمة من حال الهزيمة والضعف والمظلومية إلى النصر والقوة وتحمل المسؤولية، فحين ينتصر المسلم على ذاته أولاً، ويتحكم برغباته، ويرغمها على الخضوع لله عز وجل، وينتصر لله في نفسه، هنا فقط يستحق نصرة الله سبحانه كما ذكر في محكم آياته في سورة "محمد": {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} [الآية:7]، فنصرة الله للأمة تتطلب نصرة الأمة لله في نفسها، وحين استطاعت أن تفعل كان النصر مصاحباً لفريضة الصيام، رغم الجوع والوهن الظاهري على الصائمين.
نصرة الله للأمة تتطلب نصرة الأمة لله في نفسها، وحين استطاعت أن تفعل كان النصر مصاحباً لفريضة الصيام، رغم الجوع والوهن الظاهري على الصائمين
ومن مظاهر الانتصار على النفس ورغباتها أن ينتصر المسلم في معركة الصيام على الرياء والسمعة، وهو الشرك الأصغر، فكل العبادات ظاهرة للناس، وقد يداخلها العجب والرياء وحب الحمد من الناس إلا الصيام، فلا أحد يعلم بصيامك إلا الله، فقد يأكل الإنسان ويشرب ولا يدري به أحد، ثم يخرج للناس قائلاً أنه صائم، فامتناعه انتصار للإخلاص بداخله، هو انتصار لأخلاقياته النابعة من دينه الذي أتى ليتمم مكارم الأخلاق، فهو يمتنع عن السبّ أو القذف أو الخوض في أعراض الناس، أو الفحش من القول؛ لأنه بذلك يعرّض صيامه لعدم القبول، فمن يستطيع أن يكظم غيظه، ويتحكم في هوى نفسه فهو مؤمن قوي، يدرّب نفسه على مقتضيات القوة وغلبة النفس، والشيطان، والهوى، فما بعده من مهامّ أيسر، والمستعرض لتاريخ الأمة يجد أن معظم انتصاراتها في هذا الشهر المبارك لما له من أثر إيجابي مبهر على النفوس إن هي أدّته كما يجب.
يجب على المسلم اليوم أن يعرف مقاصد كل عبادة شرعها الله عز وجل له؛ كي يؤديها كما يريدها منه رب العالمين ، فهي كالدواء الذي يحدده الطبيب بكيفية محددة؛ كي يؤتي ثماره، ولا يترك للهوى والإرادة المحدودة العاجزة، خاصة في وقت هي أشد ما تكون فيه حاجة لثورة عقيدية وسلوكية تصلح شأنها المتردي.
المصدر : موقع بصائر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة