إخصائية تغذية وكاتبة اجتماعية ومهتمة بقضايا الشابات
تربية طفل ممتن
كتب بواسطة أفنان الحلو
التاريخ:
فى : زينة الحياة
1291 مشاهدة
منصات التواصل الاجتماعية سمة عصرنا، وأهم ما فيها التباهي.. كل من لديه أي شيء فهو يتباهى به، إلى أن أصبحت صفات عامة للمجتمع يتخلق بها الصغير قبل الكبير، فحتى الأطفال الصغار الذين لم يحصلوا بعد على حسابات في الواتساب والفيسبوك، لديهم من المكر ما يكفي لإغاظة أقرانهم بما يمتلكون خصوصا إن شعروا أن الطفل المخاطب لا فرصة أمامه ليحصل على ما يحصلون عليه!!! مما يجعله ينقلب على أهله مباشرة ويتضاءل أمام عينيه المستوى الذي يقدمونه له من المعيشة، فمهما كان جيدا هو يرى ويشاهد وضعا أفضل بكثير..!.
نتيجة لذلك يعاني الكثير من الأهل عندما يشعرهم أولادهم باستصغار ما يقدمونه لهم وبالرغم من أنه يكون أفضل شيء ممكن يستطيعون الحصول عليه. فيجمعون عليهم ضيقين: ضيق ذات اليد، وضيق إنكار الأولاد لتعبهم وفضلهم عليهم!
ضيق ذات اليد أمر يدخل فيه الكثير من العوامل ويتوقف في النهاية أمام الرزق المكتوب الذي لن يتجاوزه الانسان مهما حاول – وهذا لا ينكر أهمية السعي – لكن ماذا عن تربية ابن ممتن؟؟ هل يمكن على الأقل أن نحصل على الامتنان لجهودنا في حال لم نحصل على سعة ذات اليد؟ إن كل شخص يمر بضائقة مالية يعرف أن كل فقر الدنيا لا يساوي شيئا أمام تعيير ابنه له بفقره، وحتى لو قام الاب بعدها وقصم ظهر ابنه من الضرب فلن يغير هذا شيئا لا من رأي ابنه ولا من مرارة أبيه!
الشعور بالامتنان يجب أن يكون عند الأهل أولا:
عندما كان ابني في الصف الأول الابتدائي وحتى الصف الخامس تقريبا، كان يعود لي كل يوم من المدرسة شاعرا بالحرج والغضب، ويطلب مني أن انتظره في السيارة في مكان بعيد لا يراه به أصدقاؤه. السبب أن سيارتنا من نوع هونداي 97 لم تتغير منذ ذلك الوقت، ولدى آباء أصدقائه سيارات حديثة من عدة طرازات. وبمجرد أن يستقر في السيارة وقبل أن أسأله عن يومه يبادرني هو: لماذا انتظرتني هنا ألم أطلب منك أن تنتظريني هناك؟ متى سنشتري سيارة جديدة؟ لقد سئمت تعيير أصدقائي لي بسيارتنا!!
وأنا كنت في كل يوم أقابله بابتسامة هادئة ودون أن يؤثر شعوره بالنقص علي مطلقا: هذه السيارة تعجبني يا حبيبي، إنها قوية ولا تشكو من شيء، ولو كانت قديمة الطراز قليلا فهل هذا يعني أنها لن توصلنا مثلا أو ما شابه؟ ها نحن نذهب بها إلى كل مكان نريد أن نذهب إليه ونستمتع به، فاحمد الله على ذلك وقل: الحمد لله على النعمة. حتى الآن أولوياتنا الأخرى في الصرف لا تسمح لنا بشراء سيارة ذات طراز أحدث.. ثم حتى لو اشترينا السيارة الأحدث فسيكون هناك ما هو أحدث منها دائما!
كل يوم نفس السؤال ونفس الجواب، لا يتعب ولا أتعب.. طبعا لم يكن الجواب ليقنعه فهو يريد سيارة أخرى جديدة هنا والآن..! لذا كنت أنتقل إلى الخطوات التالية:
تذكير الطفل بأنه دائما لكل شخص شيء لا يمتلكه الآخرون:
في لحظات الهناء والصفاء، وعندما نجلس معا لنلعب أو نتحدث، أستغل هذه الفرصة دائما للتذكير بأن لدينا أشياء يتمناها الآخرون ولا يمكن شراؤها بالمال، وهي نعمة أعظم من النعم التي يمكن شراؤها بالمال. مثلا نعمة الصحة والعافية وأعان الله كل مريض. ونعمة الأهل والولد والإخوة. نعمة الذكاء والعقل والنباهة. نعمة المحبة والمودة وقوة الروابط الموجودة بيننا. نعمة راحة البال. هذه كلها أشياء لا يمكن شراؤها بكل ذهب الأرض، بل هي هبة خالصة من الله. عندما يحدثني عن فلان أو علان من المعارف أو الأقارب أو الأصدقاء الذي يملك السيارة الفارهة الفلانية، أهز رأسي في تفهم ثم أقول له: هل تعرف أن فلان هذا يعاني من المرض الفلاني وأنني متأكدة أنه سيرحب بكونه لو لم يمتلك سيارة من الأساس في مقابل أن يكون في صحتك ماشاء الله؟ كل شيء رزق يا بني، ليس المال فقط .. هل أنت مستعد أن تأخذ مرضه وسيارته معا؟
أو عندما ينظر بعين الحسرة إلى منزل بعض الأقارب، ويتمنى لو أن في منزلنا من وسائل الرفاهية ما في منزلهم، أقول له: كان الله في عون هذا القريب، فقد ركّب من أجل هذا البيت من الدين فوق ظهره ما يقصمه، وهو الآن مضطر لأن يعمل عملين معا وزوجته تعمل كذلك من أجل سداد الأقساط، ولو لا سمح الله لم يستطيعوا سداد ثمن الأقساط لأي سبب فالبيت مهدد بأن يسحب منهم بعد كل هذا التعب، هل تحب أن نعيش في هذا الجو المتوتر المضغوط لمدة عشر سنوات حتى نحصل على بيت مشابه؟ فيصمت.
تعليم الطفل أن لكل شيء في الحياة ثمن، وهناك أولويات:
لا يمكننا أن نحصل على كل الإيجابيات في الحياة ببساطة. فكل عملة لها وجهها اللامع ووجهها المظلم. يجب أن يكون لدينا الوعي الكافي الذي يجعلنا نأخذ المتعة وفي المقابل ندفع ثمنها، وإذا كنا نعتقد أننا غير قادرين على دفع هذا الثمن فلا داعي للمجازفة من الأساس. بهذه الطريقة يفهم الطفل أو الابن سبب قيامك بالاختيارات التي قمت بها من الأساس. فمثلا: الرواتب في الأردن ضئيلة عموما، الرواتب في الخارج أفضل. لكن الرواتب في الخارج لا تعني الغربة بكل أوجاعها فحسب، بل أيضا تعني أن يغيب رب الأسرة عادة لمدة عام أو ربما أكثر، حتى يتمكن من سحب عائلته معه. هل تستطيع يا بني أن تحتمل الابتعاد عن والدك عاما كاملا لا تراه ولا يراك في مقابل أن نحصل على مستوى معيشي أفضل؟
كل الناس سافرت إلى تركيا.. نحن أيضا نستطيع أن نسافر جميعا إلى تركيا في رحلة استجمام مدة خمسة أيام، إلا أن هذا يعني الاستغناء عن الكثير من الكماليات التي اعتدنا عليها لمدة ست أشهر، لنستطيع تغطية مصاريف متعة خمسة أيام. هل ترغب في ذلك حقا؟
تحميل الطفل مسؤولية مالية منذ صغره:
من أكثر الأشياء التي أدعو إليها أن يكون لدى الطفل ذمة مالية مستقلة منذ أن يصبح قادرا على العد والفهم، وهذا تقريبا في عمر ثلاث سنوات فما فوق. يحتفظ بالعيديات التي يحصل عليها والمصروف، ثم لا يحصل على ما يرغب فيه من متع صغيرة خاصة به: ألعاب أو رحلات إلى الملاهي، إلا من ذمته المالية الخاصة. في حال لم تكف ذمته المالية للطلب الذي يريده عندها يعده الأهل بأن يشتروا له ما يرغب عندما يصبر ويصبح لديه ما يكفي من المال. ستتفاجؤون من السهولة التي يتقبل فيها الطفل أنه لا يمكن أن يحصل على ما يرغب عليه لأنه لا يمتلك الكفاية من المال، وهذا – فوق أن يعلمه الإدارة المالية – سيجعله أكثر تقبلا لفكرة أن الصندوق المالي للعائلة لا يتحمل كذا وكذا من النفقات غير الضرورية.
تحمل الأهل مسؤولية قراراتهم الخاطئة:
لسنا ملائكة ولم نولد ونحن مدراء ماليون، بل معظمنا تعلم من التجربة والخطأ، ولا عيب في الاعتراف بذلك. العديد منا لم يدرس التخصص الذي له فرصة أكبر في العمل في السوق، بل درس رغبته.. ومع الوقت اكتشف أنه كان يمكن أن يوفر على نفسه عناء طويلا لو أنه درس ما يوجد فيه مجال بسوق العمل فعلا وندم على اختياره. الكثير من الناس لا يمتلكون إحساس المغامرة، ولم يرغبوا في أن يتعبوا أنفسهم ويخرجوا من منطقة الراحة خارج أوقات دوامهم لبناء أعمال خاصة بهم. وكثيرون آخرون لا يمتلكون ذرة من حسن الإدارة المالية، فنجده يصرف راتبه خلال أول أسبوع على كماليات تافهة ونزوات، ثم يجلس طيلة الشهر وهو (بخانق ذبان وجهه) من الشعور بالاختناق. لا عيب لو اعترفنا أمام أبنائنا بأننا نمتلك نقطة الضعف الفلانية أو العلانية، وأن الحياة كان يمكن أن تختلف لو أننا اتخذنا قرارا أكثر حكمة في ذلك الوقت. هذا على الأقل سيجنبهم من تكرار أخطائنا واختصار زمن التجارب.
الحصول على الحلم بعد التعب متعته أكبر من الحصول عليه سريعا:
الانسان الذي يحصل على كل شيء حياته في كثير من الأحيان فارغة من المعنى لأنه لا يوجد هدف أو حلم يسعى إليه – مالم يؤمن بقضية من القضايا الأخلاقية أو الدينية ويناضل من أجلها، وعادة لا يبقى المال كثيرا مع أصحاب النضالات الدينية والأخلاقية أي أنهما لا يجتمعان – بينما أنت يا بني لديك نعمة أن يكون لديك هدف تسعى من أجله، وستعرف بمجرد وصولك للهدف، أن رحلة الوصول كانت أجمل بكثير من محطة الوصول نفسها!
الساحة مفتوحة إن أراد تحسين وضعه هو بالذات:
يعجبني قول السويدان وأومن به إلى حد كبير: الفقر قرار. نعم ربما لن نكون من أثرى 50 عائلة في العالم، لكن مجال التحسين مفتوح إن أراد أن يخرج من قوقعة الراحة الخاصة به. هناك دائما أعمال إضافية يمكن أن يقوم بها للحصول على دخل أفضل، وبهذه الطريقة تصبح الكرة في ملعبه! لا تكن عاجزا ولا تنتظر هبة الناس لك أبدا.
أخيرا.. لا يوجد أجمل من القناعة بالموجود مع السعي إلى التحسين لمواجهة الإغراءات:
مهما كانت السيارة حديثة فهناك دائما ما هو أحدث منها، وطالما أنك – يا بني – تتأثر بمعايرة الناس لك فستبقى متأثرا، لأنه سيتواجد دائما من يملك ما لا تملك ليعايرك به. بدلا من ذلك، من الأفضل أن لا تدخل سباق التباهي من الأساس، واحصل على الشيء الذي أنت مقتنع به بغض النظر إذا كان هو الأحدث أو الأجمل أو لا، لتجنب نفسك الشعور بالعذاب والنقص طيلة العمر. وتذكر دائما: مهما كان وضعك فيوجد لديك شيء ثمين لا يملكه الناس جميعا ولا يستطيعون شراءه حتى لو أرادوا، أنا مثلا لدي أنت! وأنت مثلا لديك أبوين رائعين مثلنا !! (من باب المزاح بالطبع)
الحمد لله، صحيح أن ابني حتى الآن لا يزال يتضايق من سلوك المتباهين ولا يعرف تماما كيف يسكتهم بدون أن يغضبهم خصوصا لو كانوا من المعارف الذين يهمنا رضاهم، لكن على الأقل تبخرت لديه عقدة النقص.. وإذا قلت له: أرجو أن يكرمنا الله ونستطيع تغيير السيارة قريبا إلى سيارة أحدث بقليل.. يقول لي: ومالها السيارة؟؟ هيها كويسة ومحترمة وبنت ناس.. وبتمشي ومش ناقصها إشي!!
المصدر : موقع إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن