كاتبة
الميلاد الثالث لنبي العالمين
كتب بواسطة عزة مختار
التاريخ:
فى : آراء وقضايا
2045 مشاهدة
حالة من الفوضى تعم العالم من شرقه لغربه وشماله وجنوبه، القوي يأكل الضعيف، أخلاقيات الغابة تجتاح العالم، الظلم يسود ويحكم ويتحكم بمقاليد الأمور، كل الأشياء تعبد من دون الله الصنم والحجر والإنسان ومبادئ القوة والذات والشهوات والقبلية والعنصرية، كلهم يعبدون من دون الله!
حتى تلك الحضارات القديمة التي اقتسمت الدنيا فيما بينها، الحضارة الفارسية التي كانت تمثل الديانة الأرضية والعبادات الوثنية وكانت عاصمتها المدائن، والحضارة الرومانية التي تمثل الدين السماوي المحرف والتي كانت تتخذ القسطنطينية لها عاصمة، قد صار الظلم فيهما غير محتمل، أبشع صور الاضطهاد والتعذيب والقتل ضد مواطنين ينتمون عقيدياً للدولة، الحروب الطاحنة بين الحضارتين تنعكس على المواطنين بحياة الضنك والعبودية والجوع والتشرد، لا قيمة لأي إنسان فهو سلعة تباع وتشترى!
حتى الجزيرة العربية التي كانت تتمتع بمكانة دينية متفردة بوجود الكعبة بقايا الحنيفية السمحاء ودين ابراهيم رغم وجود عبادة الأوثان التي اتخذها العرب بحجة أنها تقربهم من الله زلفى، لم تسلم -الجزيرة العربية- من أجواء العفن المحيطة ومنها الحروب التي وقعت فيها كحرب داحس والغبراء!
على أن العرب رغم انحرافاتهم الأخلاقية إلا أنهم كانوا ما زالوا يتمتعون ببعض الأخلاق الكريمة كالكرم ونجدة الملهوف، فكانت كالأرض البكر الصالحة لغرس دين جديد، فكان ميلاد محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ليضع ميلاده الكريم حدا للإنسانية بين الجهالة والعلم، بين الظلام والنور، بين الموت والحياة، ليعتدل ميزان العدل وتبدأ الإنسانية حياة جديدة وحضارة من أعظم الحضارات التي عرفتها الإنسانية.
من الميلاد الأول للنبي إلى الميلاد الثالث
إن الميلاد الأول للنبي عليه الصلاة والسلام أنقذ البشرية من عملية فناء حتمي كانت ستتعرض لها نتيجة الحروب المتواصلة، والتي لا يحكمها خلق، ولا دين، ولا مرجعية سماوية، ولا خوف من غضب رباني أو عقاب أخروي، فقد كانت الطبقة الفقيرة والتي يحسب كل مواطنيها على درجة العبودية للأغنياء معرضة للفناء والاندثار، وكانت المرأة معرضة للسبي -مهما بلغت مكانتها- طالما تعرضت قبيلتها أو مدينتها أو قريتها للقتال والهزيمة، ويعاد الزمن، وتتكرر الأحداث، ويعود الخطر المحدق بالإنسانية مرة أخرى، فما الذي يعيد للبشرية الأمان من جديد، وما الذي يضمن استمراريتها على الأرض؟
يقول الدكتور السيد عمر أستاذ النظرية الإسلامية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، "لقد كان للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثة ميلادات ضمنت للبشرية السعادة حتى يأذن الله عز وجل للحياة أن تنتهي وتحين ساعة الحساب:
الميلاد الأول له عليه الصلاة والسلام، يوم ولدته أمه السيدة آمنة بعدما مات أبوه ولم يره.
الميلاد الثاني حين بلغ بالرسالة، وتحمل التكليف بالتبليغ لدين الله.
الميلاد الثالث وكان يوم موقعة أحد حين نزل قول الله تعالى في سورة آل عمران {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا، وسيجزي الله الشاكرين} [144].
وتنزلت هذا الآية بعد تفرق المسلمين في المعركة وهروب الأكثرية منهم حين أشيع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات في المعركة ومن ثم فقد وجوب الهروب ظناً منهم أن الإسلام قد انتهى بوفاته عليه الصلاة والسلام، فتفرق الناس ومنهم من هرب إلى المدينة، إلا القلة القليلة التي ثبتت ونادوا أن موتوا على ما مات عليه نبيكم، هنا تحول النبي الإنسان محمد بن عبد الله، إلى فكرة ورسالة، فالنبي صلى الله عليه وسلم إنسان يحيا ويموت، لكنه تحول إلى فكرة غير قابلة للموت، فكرة باقية خالدة بخلود الحياة على الأرض، فكان ميلادا ثالثاً وتخليداً للرسالة التي يحملها الرسول محمد، لا تنتهي بنهايته، ولا تموت بموته".
فالرسول مات، لكن سيرته باقية، وسنته باقية، وقيادته للأمة باقية، وأفعاله التي هي نور وسبيل مضيء وعلامة لصحة أية طريق باقية ، والعالم الذي تحول بميلاده الأول لواحة عدل وأمان للإنسانية، هو نفس العالم اليوم الذي يجب أن يستمد من ميلاده الممتد إلى يوم الدين، نفس النبراس ونفس الطاقة والقدرة على التجديد، من منهج يحمل في ذاته عوامل صلاحيته لكل زمان، ولكل مكان.
النبي صلى الله عليه وسلم إنسان يحيا ويموت، لكنه تحول إلى فكرة غير قابلة للموت، فكرة باقية خالدة بخلود الحياة على الأرض، فكان ميلاداً ثالثاً وتخليداً للرسالة التي يحملها الرسول محمد، لا تنتهي بنهايته، ولا تموت بموته
تصحيح مسار الأمة وإعادتها للرشد
من رحمة الله بهذه الأمة الخاتمة أنها أمة لا تفنى، ولا تستبدل، هي أمة مؤهلة للبقاء ببقاء الرسالة التي تحملها، ولذلك فإن ذكرى المولد النبوي كل عام يجب أن تكون بداية لتصحيح المسار وإعادة الأمة إلى جادة الصواب، وأن لا يتوقف اليوم على الاحتفال بشكل مفرغ من مضمونه الإيجابي ليتشابه مع الاحتفال بميلاد المشاهير في التاريخ ونزع قداسة الفكرة من أذهان المسلمين.
إن مرور ذكرى المولد يجب أن يكون حافزا للوقوف والمراجعة والبحث عن أسباب النكوص عن المهمة الأساسية التي بعث من أجلها محمد صلى الله عليه وسلم، والتي هي حمل مشروع (الهداية) للعالمين، ولا يجوز أن يحمل مشروع الهداية ضال، ولا يجوز أن يكون جاهلاً يتلقى ما تبقى من حضارات الآخرين، ويرضى أن يكون مجرد سوق توزيع سوءات الدول!
إن مرور ذكرى المولد يجب أن يكون حافزا للوقوف والمراجعة والبحث عن أسباب النكوص عن المهمة الأساسية التي بعث من أجلها محمد صلى الله عليه وسلم، والتي هي حمل مشروع (الهداية) للعالمين
لا يجوز أن يكون هو اليد السفلى التي ترضى بالدنية، فتتحارب فيما بينها، بأسها بينها شديد وعلى العدو حمل وديع، لا يجوز لأمة تستدين، وتمد يدها للحصول على لقمتها اليومية، وتبذل نفائسها للحصول على دوائها وسلاحها من يد عدوها أن تدعي أنها تمل مشروع هداية.
لا يجوز لأمة ما زالت البقعة الأغلى فيها والأكثر قداسة يطؤها المستعمر الصهيوني بقدمه، بينما الأعراب مختلفون، يقتل بعضهم بعضاً، ثم هم يظنون أن الله ناصرهم، أو يمكن لهم وهم على هذا الحال من الضعف والهوان والانحلال والخنوع والاستسلام!
فليست تلك أمة محمد الذي تحول لفكرة لا تحتاجه الأمة كجسد، وإنما تحتاج إعادة قراءة المنهج الشامل الذي أتى به، والذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به، لن تضلوا بعدي أبدا، كتاب الله وسنة رسوله" (رواه الحاكم) فلسنا اليوم في حاجة لشخص رسول الله والذي ولدته أمه في مثل تلك الأيام المباركة، ولسنا في حاجة للرجل الذي تنزل عليه القرآن والرسالة فبلغها وأدى الأمانة ونشهد على ذلك، وإنما نحن اليوم في حاجة لمحمد الفكرة الباقية، تلك الفكرة التي هاجرت الأرض الغالية حفاظاً على الدين، وصار الدين معه هو الوطن، الفكرة التي كونت دولة تساوى فيها الفقير مع الغني، والمهاجر مع الأنصاري، والعبد مع سيده، لم يفرق بينهم إلا التقوى والعمل الصالح.
نحن اليوم في حاجة لمحمد الفكرة الباقية، تلك الفكرة التي هاجرت الأرض الغالية حفاظاً على الدين، وصار الدين معه هو الوطن، الفكرة التي كونت دولة تساوى فيها الفقير مع الغني، والمهاجر مع الأنصاري، والعبد مع سيده، لم يفرق بينهم إلا التقوى والعمل الصالح
تلك الفكرة التي حولت الجزيرة العربية الصلبة القاحلة لحضارة يحمل جنودها الذهب والجواهر على ظهور الخيول لا يفكر أن يمد يده عليها ليعرف ما هي، الفكرة التي جعلت مسئول الحسبة في سوق المسلمين امرأة، ووظيفة الحسبة تعني مراقبة الأسواق وجودة السلع وضبط الأسعار، هي وظيفة يبدع فيها الرجال اليوم في الرشاوى وغش المسلمين، الفكرة التي صنعت من أم عمارة بطلة، يقطع ذراعها بينما تدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، فيقول لها الحبيب من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة، فتقول بل أطيق وأطيق وأطيق يا رسول الله، يهرب الكثير من الرجال وتثبت امرأة تربت على نفس الفكرة التي تربوا عليها، وهي أن الإنسان مسئول سواء كان رجل أو امرأة.
تلك الفكرة التي جعلت عمر بن عبد العزيز أن يزوج الشباب، ويغني البيوت، ولا يأخذ الجزية ممن عجزوا عن أدائها، الفكرة التي جعلت الأندلس قبلة الباحثين عن العلم من الغرب لينقلوا مبادئ الحضارة الغربية من جامعات قرطبة، الفكرة التي أجبرت العالم على احترام المسلمين وخطب ودهم حين كانوا مسلمين.
ذلك هو الميلاد الثالث للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك هو الاحتفال بميلاده ونبوته وإحياء دينه الذي كان السبب الوحيد في سعادة الإنسانية يوماً، ومنذ ذلك اليوم الذي غربت فيه شمسه وتحول الأفق لدماء تنزف في كل مكان، وقع العالم عامة والمسلمون خاصة في فتن ليس لها إلا ميلاد جديد، ميلاد يعلن للعالم أن هنا أمة محمدية تأبى على الفناء والاندثار، وقد آن أوان نهضتها من جديد، فلنصل ونسلم على سيد الخلق أجمعين، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المصدر : موقع بصائر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة