الاعتذار.. سلوك حضاري يعكس ثقافة المجتمع
ثقافة الاعتذار والاعتراف بالخطأ من إحدى الثقافات التي غابت عنا أفراداً وجماعات، فهي ليست مجرد كلمة عابرة وإنما سلوك حضاري وفن ومهارة اجتماعية لا يتقنها إلا الرجال الأقوياء العقلاء، وهي بمثابة هدية تعبر عن تقديرنا وحبنا واحترامنا لمن أخطأنا بحقهم فتزيد من الألفة والمحبة والتقارب بين جميع أفراد المجتمع.
الاعتذار لا يعني أنك على خطأ فقط بل يعني أنك تقدّر العلاقة مع الآخرين وتمنحها أهمية كبيرة، ولا جدوى من الاعتذار ما لم تُرافقهُ نيّة صادقة على تصحيح الخطأ، وعدم تكراره.
هناك الكثير ممّن يعتقدون أن في الاعتذار ضعفاً وهدراً للكرامة، وهذا المفهوم المغلوط الشائع هو السبب وراء قطع العلاقات التي تجمع بين الناس، وضياع الكثير من الذكريات، والمواقف الجميلة التي ربطت بينهم لفترات طويلة، ويندرج تحتها قطع صلة الأرحام وتفكك الأسر والعائلات.
هناك مقولة للروائي البرازيلي الشهير باولو كويلو: "ازرعوا في أطفالكم دائماً ثلاث ثقافات: الاعتذار، المحبة، الشكر.. فمجتمعنا مجحف بها جدا". هذا في المجتمع الغربي فكيف حال مجتمعاتنا العربية؟
الاعتذار والقيم الإسلامية
أظهرت نتائج دراسة نشرتها مجلة التربية في جامعة الأزهر أن تنشئة الأطفال على فضیلة الاعتذار من شأنها أن توجد مجتمعاً مترابطاً متکافئاً خالیاً من الحسد والحقد، وأن تربیة الطفل على الاعتذار لا تقتصر على الاعتذار للبشر فحسب، وإنما یجب على المربي أن ینشئ الطفل ویربیه على فضیلة الاعتذار إلى الله سبحانه وتعالى أولاً عن طریق الاستغفار والندم والتوبة وإصلاح النفس من الداخل، وأن الاعتذار إلى الآخرین عند الخطأ في حقهم یعد عبادة وتقرباً إلى الله سبحانه وتعالى، وهو منهج رباني ربَّى الله سبحانه وتعالى علیه الأنبیاء والرسل علیهم السلام.
ومن أسالیب تنشئة الطفل على الاعتذار للآخرین عند الخطأ بحقهم: القدوة، والقصة، والترغیب والترهیب، والموعظة الحسنة، والحوار، والتربیة من خلال الأحداث الجاریة.
وخرجب الدراسة بعدة توصيات أهمها: یجب على جمیع المؤسسات التربویة إعادة بناء المنظومة الأخلاقیة لأفراد المجتمع کافة، وتضمین ثقافة الاعتذار من خلال بیان أهمیة تلك الفضیلة وتنمیتها لدى الأطفال عن طریق الأسالیب التربویة الإسلامیة، کما ینبغي على المربین أن یثقفوا أنفسهم تربویاً، ویتدربوا على الأسالیب التربویة المختلفة لغرس الفضائل والقیم الإسلامیة التي تتناسب مع الأطفال باختلاف شخصیاتهم وأعمارهم، واختلاف المواقف والتجارب التی تمر بهم.
وكما يقولون دائمًا أن الاعتذار من شيم الكبار.. فمثلاً الأنبياء كانوا يعتذرون عن أي خطأ يرتكبوه؛ موسى عليه السلام بعد أن وكز الرجل بعصاه فقتله: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص:15].
د. محمود عكاشة: ثقافة الاعتذار تعكس مضمون الشخصيَّة الإنسانيَّة، ومدى اتساع مداركها الفكريَّة وقدرتها على التعامل مع مختلف الظروف والمواقف الحياتيَّة، وعلى الإنسان أن يعلم أنَّه في اعتذاره عن أخطائه ترتفع قيمته ويعلو قدره بين الناس
من جانبه، يرى أستاذ علم النفس في جامعة دمنهور بالإسكندرية د. محمود عكاشة في حديثه لـ"بصائر" أن خلق الاعتذار واحد من الفضائل الإنسانيَّة النبيلة.
ويبين عكاشة أن ثقافة الاعتذار تعكس مضمون الشخصيَّة الإنسانيَّة، ومدى اتساع مداركها الفكريَّة وقدرتها على التعامل مع مختلف الظروف والمواقف الحياتيَّة، وعلى الإنسان أن يعلم أنَّه في اعتذاره عن أخطائه ترتفع قيمته ويعلو قدره بين الناس، ويرضى عنه الله سبحانه وتعالى، ويكون قد اتبع سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك ينال الأجر العظيم من الله عز وجل وتزداد محبة الناس له.
ويشير إلى أن علم النفس الحديث يتناول التسامح كواحد من أساليب العلاج الحديثة التي نجحت في علاج كثير من الاضطرابات التي يعاني منها الأشخاص هذه الأيام.
طرق الاعتذار
يستدرك عكاشة قائلا: الاعتذار سلوك الأسوياء حيث تكمن عقدة الاعتذار عند الاشخاص في الطريقة التي يمكن الاعتذار بها دون الإحراج من الآخرين، وتوجد عدة طرق يمكن من خلالها تقديم الاعتذار بطريقة مهذبة ومقبولة من الجميع.
البدء في الاعتذار بقول: أنا آسف أو أنا أعتذر، وإلحاقها بسبب الاعتذار لخلق نوع من الثقة عند الشخص المقابل. الحرص على تبرير الخطأ مع ضرورة تبريره بأسباب منطقيَّة ومقبولة، وفي حال كانت الأسباب سطحيَّة فيُفضل عدم ذكرها. قد يحمل الاعتذار في طياته إبداء مشاعر الندم بطريقة مهذبة، والحرص على رسم الابتسامة الصادقة، والوعد بعدم تكرار الخطأ مرة أخرى.
التربية على الاعتذار
يجب تربية الأبناء على مسلك الاعتذار، ليصبح نمطا سلوكياً أو عادة سلوكية داخل الأسرة يتعلمه الطفل من والديه وإخوته الكبار. كما يجب على المدرسة أن تعتبر سلوك الاعتذار سلوكاً سوياً وخلقاً عظيماً يتعلمه درساً ويمارسه سلوكاً، ويصبح واحداً من الأهداف التي تنشد المدرسة غرسها في أبنائها. كما على الإعلام بكافة وسائله تحري الدقة في التزام الجميع بعرض مواقف إيجابية تربي المشاهد على تبني وحب هذا المسلك الجميل، بحسب عكاشة.
الاعتذار والمسجد
يرى عكاشة أن للمسجد دور هام في غرس قيمة الاعتذار والتركيز على دورها في تهذيب نفوس الناس وتنقيتها من شوائب الكبر والحقد والكراهية وتبني قيم التسامح والعفو.
الاعتذار وحضارة الأمم
يؤكد عكاشة أنه من المهم أن يعلم المجتمع ويتربى على مفاهيم يعلي فيها قيم دينه وأخلاق وطنه وأمته، وعلى رأس تلك الأولويات احترام خصوصيات الآخرين وعدم التجاوز في مسلكه لها وعندما يفعل خطأ ما فعليه مباشرة أن يعتذر.
موقف الإسلام
د. وليد فارس: الاعتذار عن الخطأ يحتاج إلى طاقة نفسية كبيرة؛ لأن فيه إراقة ماء الوجه بالاعتراف بالخطأ ثم الاعتذار عنه
يلخص مدير مركز شؤون العالم الإسلامي في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا د. وليد فارس خلال حديثه لـ"بصائر" موقف الإسلام من قضية الاعتذار من خلال:
أولا: الاجتهاد في اجتناب الأخطاء قولا أو فعلا التي تضطرك إلى الاعتذار، فيجب على الإنسان مراقبة أفعاله وأقواله وتجنب ما يستبشع في أعراف الناس منها. وهذه ممكن نطلق عليها مرحلة الوقاية من الاعتذار.
ويضيف أن الاعتذار عن الخطأ يحتاج إلى طاقة نفسية كبيرة؛ لأن فيه إراقة ماء الوجه بالاعتراف بالخطأ ثم الاعتذار عنه.
ثانيا: المرحلة الثانية هي الاعتذار عند بدور الخطأ بعد الاعتراف به وهذه نراها في أفعال كثير من الصحابة والتابعين وحث أوائل المسلمين على قبول الاعتذار وعدم التثريب على المخطئ كثيرا لأنه أراق ماء وجهه باعترافه واعتذاره.
ويستشهد بقول الأحنف بن قيس رحمه الله: "إن اعتذر إليك معتذر تلقه بالبِشْر".
ويذكر ابن حجر قصة اعتذار هبار بن الاسود في كتابه الإصابة: أن هبار بن الأسود نخس زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أرسلها زوجها أبو العاص بن الربيع إلى المدينة فأسقطت، وبعد الفتح يأتي هبار إلى رسول الله ويعتذر إليه فيقول ابن حجر: "فوقف هبار فقال: السلام عليك يا نبي الله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، ولقد هربت منك في البلاد وأردت اللحاق بالأعاجم ثم ذكرت عائدتك وصلتك وصفحك عمن جهل عليك، وكنا يا نبي الله أهل شرك فهدانا الله بك وأنقذنا من الهلكة فاصفح عن جهلي وعما كان يبلغك عني فإني مقرٌ بسوء فعلي، معترفٌ بذنبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قد عفوت عنك وقد أحسن الله إليك حيث هداك إلى الإسلام والإسلام يجب ما قبله".
وخلاصة القول بحسب فارس أن مجتمعاً يتجنب أفراده قولأ أو فعلاً يستلزم الاعتذار، هو مجتمع سليم نفسياً خال من الأمراض الاجتماعية. أما مجتمع أفراده يخطئون عمدا ولا يعتذرون ومجتمع أفراده لا يقبلون اعتذار المعتذر هو مجتمع مريض مؤذن بخراب البلاد و العباد.
المصدر : موقع بصائر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة