القروض.. أجرٌ وتكافل إن تحققت الشروط
يمرُّ أغلب الناس بفترات في حياتهم يضطرون فيها للاستدانة من الآخرين، ومهما رفضوا الفكرة فقد يكون لا بديل عنها في بعض الأحيان، كمن لم يجد ما يشبع به بطون أطفاله، وفي المقابل ربما يقبل آخرون الأمر لدرجة تدفعهم للاقتراض لأبسط الأسباب، فيتحول الأمر بالنسبة لهم إلى عادة، وأسوأ من ذلك أن البعض قد يرفض إعادة المال لصاحبه بأية ذريعة برغم قدرته. لأجل كل ذلك، لم تترك الشريعة أمر القروض بدون ضوابط، فحددت معايير على طرفي القرض الالتزام بها. وقبل البدء بحديثنا ننوه إلى أن القروض التي نتحدث عنها هي القروض الحسنة، الخالية من الربا، فالقرض الربوي لا خلاف على حرمته.
معاملةٌ مستحبة
من جانبه قال الدكتور زياد مقداد: "الناس ليسوا على درجة واحدة في الغنى والملك، ومن جهة أخرى فالناس يحتاج بعضهم بعضاً في مسألة الاقتراض كما يحتاجون بعضهم في كل المسائل فهذا مدرس وهذا بنّاء وذاك طبيب."
ويضيف: "وبشأن الاقتراض، يحتاجون بعضهم؛ فهذا غني وهذا فقير، والحاجة ليست بسبب الفقر فقط، فالشخص في فترة من فترات حياته يسعى لتكوين نفسه في جوانب مختلفة، كالزواج أو تأسيس عمل خاص، وهنا ربما لا يستطيع أن يقوم على الأمر إلا بالاستعانة بالآخرين عن طريق الاستدانة".
د. زياد مقداد: ابتعد الكثير من المسلمين عن التغافل بسبب ضعف الإيمان والجهل بطبيعة هذا الخُلُق ونتائجه الإيجابية، والتعاطي المغلوط مع أخطاء الآخرين، بالإضافة إلى حقد بعض الأشخاص وانتشار الكراهية بينهم
ويتابع: "لذا أتاحت الشريعة الاقتراض، بل حببته وشرعته بين الناس، لدرجة أن جعلت القرض في منزلة أفضل من الصدقة، وأجر المُقرض يزيد عن المتصدق، لأن المُقترض لا يستشعر حرجاً ومنةً من صاحب المال كما في الصدقة".
ويرى مقداد: أن "هذه المعاملة باتت نادرة في هذا الزمان؛ لما يترتب عليها من إشكالات ناتجة عن عدم التزام بعض المقترضين بإعادة الأموال لأصحابها في الوقت المتفق عليه، ما يجعل الكثير من الناس يمتنعون عن إقراض المحتاجين".
الحاجةُ أنواع
ويؤكد أن الشريعة -وإن كانت حببت القرض وجعلت لمُعطيه أجراً عظيماً، إلا أنها -فرضت ضوابط على الدائن والمدين.
عن الضوابط المتعلقة بالمستدين، يوضح: "ينبغي أن يكون محتاجاً، لا أن يطلب القرض استغلالاً لمال الآخرين".
ويبين أنه كذلك لا بد من توفر نية السداد، فالبعض يأخذ الأموال وفي قرارة نفسه ينوي عدم إرجاعها، ومن هنا جاء تحريم المماطلة في السداد، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "مَطْل الغنيِّ ظلم، وإذا أُتْبع أحدكم على مَلِئٍ فليَتْبع" (رواه مسلم).
وينوه إلى أن المحتاج الذي يدرك أنه سيعجز عن إعادة الأموال، عليه ألا يطلب الدين ويحدد موعداً للوفاء به برغم علمه بعدم قدرته، إلا في حال أخبر الدائن بهذه الحقيقة، فإن قبل صاحب المال إقراضه بناء على هذا الشرط، فلا بأس.
ويشير مقداد إلى أن طلب الدين يكون ممنوعاً في حال كان مع الفرد ما يكفيه من مال ولا يحتاج لغيره، وكذلك إن كان يطلبه لأجل المحرمات، كالقمار والخمور .
طلب الاقتراض، وإن كان بسبب الحاجة فعلاً، فإن الفرد قد يستسهله مع التكرار، وعن ذلك يقول مقداد: "هذا قيد آخر لمن لا يجوز لهم، فالأصل ألا يجعل المسلم الدين الطريق الأقصر لتحصيل المال، فثمة أناس ديدنهم أن يتركوا العمل والبحث عن الرزق ويسلكوا الطريق السهل، فيطلبوا الدين من الناس، ومن هؤلاء من يضع في نفسه النية بعدم التسديد".
ويضيف: "على المسلم أن يبحث عن العمل، ويعمل، وألا يعوّد نفسه على الطلب من الآخرين، وأن يصبر ولو كان محتاجاً ، فالاستدانة تصبح شكلاً من أشكال التسول إن اعتاد الإنسان"، مذكراً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "اليد العليا خير من اليد السفلى" (رواه البخاري).
درجات
وبالانتقال إلى صاحب المال، يقول مقداد: "الحكم العام للإقراض هو الاستحباب، لكن في بعض الحالات يرتفع للوجوب، أو يصل لدرجة التحريم، وبينهما الاستحباب والكراهة".
ويضيف: "إذا طلب القرض شخص يكاد يموت جوعاً، فهنا لا يجوز لصاحب المال الرفض، إن علم بهذه الحاجة الماسة"، متابعاً: "في حالات أخرى قد يعرف الغني أن طالب الدين سينفق الأموال في المحرمات، هنا يحرم إعطاؤه، وإلا كان شريكا له في الذنب".
ويواصل: "أما إن كان طلب القرض للزواج أو التجارة أو ما شابههما، ففي المسألة متسعٌ، وبالطبع يُستحب من الغني إعطاء القرض، من باب سد الحاجة والحفاظ على العلاقات الاجتماعية، لكن إن امتنع فلا يكون قد وقع في الحرام".
مسؤولية الدولة والمجتمع
وعند الوصول للموعد المتفق عليه بين الطرفين للسداد، ماذا لو أخل المقترض بالاتفاق؟ يجيب مقداد: "من طلب الدين في فقره، ثم أغناه الله فلم يسدد، ففي تصرفه هذا ظلم للمُقرض الذي ساعده".
ويوضح: "أما إن لم يستطع التسديد بالفعل، فالأصل أن يصبر المقرض ويمنحه مزيداً من الوقت، التزاماً بقول الله - تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280].
لكن قد يكون المُقرض قد صار بحاجة لماله، وفي هذه الحالة، يرى مقداد أن التعاون يجب أن يكون سيد الموقف، أولاً/ التعاون بين طرفي القرض، وثانياً/ التعاون بين المجتمع ككل.
يبين: "على المقترض أن يراعي صاحب المال، خاصة أنه كان ساعده وقت حاجته، وبالتالي فليتدبر أمره بطريقة ما، كأن يقترض من آخرين ليعيد المال، وفي المقابل يمكن للمُقرض أن يقبل بجزء من المال ويؤجل الباقي".
أما عن التعاون المجتمعي، فيوضح: "من جمال الشريعة وشموليتها، أنها جعلت الغارمين من مصارف الزكاة، لذا فمن مسؤولية الدولة والمجتمع مساعدة المدين على الوفاء بدينه، ومساعدة المقرض على استرداد ماله ".
ويقول: "لا يُعقل أن يتحمل صاحب المال الديون وحده، ومن هنا تظهر أهمية أن يشاركه في مسألته كل من الدولة وصندوق الزكاة أو الجهات المشابهة".
ويضيف: "أما أن يُترك الطرفان دون عون، فهذا فظلم، يشعر المدين بالعجز وظلم المجتمع، ويعجز الدائن عن تحصيل ماله فيمتنع عن تكرار التجربة".
فائدة لكل الأطراف
د. إياد الشوربجي: القرض يعود بالمصلحة على آخذه لكونه يساعده على تخطي ضائقة يمرّ بها، أما صاحب المال فالفائدة العائدة عليه، تتمثل في السعادة التي يشعر بها نتيجة العطاء
من جانبه، يقول الأخصائي النفسي/ الدكتور إياد الشوربجي، إن القروض شكل من أشكال التكافل ودليل على التعاون بين أفراد المجتمع، ولها تأثيرات إيجابية على الدائن والمَدين، وعلى المجتمع كاملاً.
ويضيف: القرض يعود بالمصلحة على آخذه لكونه يساعده على تخطي ضائقة يمرّ بها، وربما يمهد له الطريق لتأسيس مشروع يعود عليه بالنفع طيلة حياته، وهذا يمنحه شعوراً بأن مجتمعه يحتضنه ويقدره ويحترمه ويتعاون معه"، متابعاً: "أما صاحب المال فالفائدة العائدة عليه، تتمثل في السعادة التي يشعر بها نتيجة العطاء، وفي الشعور بالإنجاز لكونه ساهم في التخفيف عن غيره".
ويواصل: "على صعيد المجتمع، القروض تساهم في تقوية العلاقات بين أفراده، وتحقق بينهم التعاون والتكافل، بالإضافة إلى أن الديون التي يستخدمها الناس في تأسيس مشاريع تجعل الشخص منتجاً، وقادراً على استثمار إمكاناته لصالح المجتمع، وقد توفر تلك المشاريع فرص عمل للعديد من المواطنين، وبالطبع فإن هذه الفرص من أسباب استقرار المجتمع وتحريك اقتصاده".
ويؤكد الشوربجي: "الأصل ألا يطلب الشخص الدين إلا للضرورة، وبعد أن يستنفد كل محاولات الصبر والاعتدال في الإنفاق وتأجيل تلبية بعض الاحتياجات ".
ويبين: "الدين يسبب الحرج لصاحبه، لكن هذا الشكل من التأثر تراجع في المجتمع الغزي؛ فقد تحوّلت الديون إلى ظاهرة بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة في السنوات الأخيرة".
ويوضح: "الخطورة تظهر عند عدم القدرة على السداد؛ فالمستدين الحريص على الالتزام بالموعد المتفق عليه لإعادة المال، قد لا يستطيع مواجهة المجتمع الذي يطالبه بالسداد، خاصة إن وصل الأمر للملاحقة والحبس".
ومن النتائج النفسية في هذه الحالة، أن المستدين ينعزل عن الناس، وتتأثر علاقته بهم، ويتسم بالعصبية والتوتر والقلق، مع الكثير من الخلافات الأسرية بسبب الضغط النفسي والإحباط الذي يعيشه، بحسب الشوربجي.
ويلفت إلى أن تلك الآثار تكون أشد وطأة على من كانوا يتمتعون بوضع اقتصادي جيد سابقاً، كالتجار الذين خسروا بسبب الحصار، وتراكمت عليهم الديون، فوجدوا أنفسهم في السجون، هؤلاء لا يتحملون الذل بعد المكانة الكبيرة.
المصدر : موقع بصائر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة