لا مداهنة في الدين
كتب بواسطة نورا عبد الغني عيتاني
التاريخ:
فى : في رحاب الشريعة
1467 مشاهدة
لو أني تخيلت نفسي أداهنُ أو أجاملُ في مبادئ أساسية مثل هذه – وإن كان البعض يعتبرها أمورا عادية ثانوية وغير مهمّة – فأتقرب من النصارى في أعيادهم الدينيّة، وأهنئهم عليها - وإن لم أشاركهم في إتمام الشعائر والزينة ومراسم الاحتفال - لوجدتُ هذي النفس حتمًا ستضطرّ بعد هذا للتنازل والهبوط والتساهلِ أكثر وأكثر فيما بعد، حتى تصل إلى نقطة لا تحمد عقباها.. فطرحت هذا المثال على نفسي: ماذا لو أنّ لي ثلاث جارات، إحداهن نصرانية، والأخرى يهودية، والثالثة بوذية.. ماذا لو أني قمت بتهنئة الأولى في عيد الميلاد تماما كما قالت لي تلك الصديقة، على نية أني أهنئها بميلاد نبي الله عيسى، وليس الرب – والعياذ بالله – هذا إن سلّمنا جدلا بأنّ ميلاد النبي عيسى حقا قد كان في هذا التاريخ، وهذا أمرٌ مختلفٌ فيه حتّى بين النصارى أنفسهم. فإن حدث وجاملت في الأولى، وخدعت نفسي وكذبت عليها، بحجة أنّ النية صافية، والقصد سليم، والمآلُ نافع، ألا وهو إظهار اللين والرحمة والتعاطف والشفقة، وتحبيب الآخر بالدين، وإظهار رقي التعامل، ورفعة الحس والذوق.. إن حدث وفعلت كل هذا، متخطية عامل الغموضِ في التاريخ واحتماليّة التلاعبِ فيه، تمامًا كما هو الحالُ في التلاعبِ بطبيعةِ عيسى عليه السلام!.. إن حدث وقبلتُ بالسكوت عن هذا الخطأ التاريخي المحتمل، وكتمتُ في نفسي حاجتي الماسة للبوح بهذا السؤال الذي هو موضع شكٍّ واختلافٍ بين العلماء، عندنا وعندهم. فهل يصحُّ أن أكتم في نفسي أيضًا حقيقة أن الآخر – ألا وهو النصراني – لا يعلم طبيعة نيتي، وما يختبئ خلف كلمات التهنئة؛ فهو يعتبر تهنئتي له مجرد إقرار واعتراف وتصديقٍ بمعتقداته، بل وتأكيد لصحتها؟.. فهو لا يملك النية نفسها، ولا يحتفل بميلاد عيسى النبي كما أحاول أن أقنع نفسي، أو أن أخدعها بذلك، بل يحتفل بميلاد الربّ الابن – تعالى الله عن هذا علوا كبيرا – فكيف لي أن أفهمه فيما بعد، أو أن أحاول حتى أن أشير له بأطراف الأصابع بأنّ ديني هذا هو الحقّ، وأنّ دينه فيه خللٌ في الاعتقاد وشطحٌ في المبادئ والأساسيات، وأنّ فيه شركٌ كبيرٌ يقرّهُ ويتبنّاهُ ويحتفلُ بهِ في أعياده، ويؤطّرهُ ضمن حدودها ليوسّعه في خارجها فيما بعد، والشرك كما نعلم كلّنا من أفظع ما يحاسب الله عليه، بل ويغفرُ دونه كلّ الذنوب؟! قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } النساء:48.
كيف لي بعد هذا أن أجرؤَ على تقديم النصح، أو التلميح بأي دعوة، وأنا قد سلّمتُ جدلا بأنّ فكرة احتفاله بعيده الديني هذه سليمة، وأنّ احتفاله بالشركِ والكفرِ ونسبةِ الولد لله، هو شيءٌ مفرحٌ أشاركه فيه، بل وأهنئه عليه بكلّ جرأة وحرارة وإقدامٍ وتفاخر، وأعتبر هذا من الواجباتِ اللازمة، و( الإتيكيت ) الاجتماعيّ الرائع، والذوقِ الرفيعِ الجذّاب ؟!.. بل وقد يحدث أن أميل فيما بعد، وأصبح أكثر قربا وأشدّ تأثّرا ولينا وهوانا؛ فأصير ممن يحتفلون معه بهذا العيد، ويطبقون شعائره ومراسمه بحذافيرها، ويتزينون بزينته، ويتزيون بزيه وأفكاره وتطبيقاته، وليس هذا ببعيد! وهذا بالفعل ما قد حدث كثيرا وما زال يحدث بين أوساط الكثير من المسلمين، ممن عرفتهم عن قرب، وليس في بلاد الغرب مع الأسف، بل في بلداننا العربية، التي قد يحدث أن تختلط فيها وتتفاعل بعض الطوائف والأديان والملل.. وقد عرفت شخصيا إحداهنّ، ممن كانت ترتدي الحجاب وتتحلّى بأخلاق إسلامية فاضلة، حتى إذا ما خالطت بعض النصارى في الجامعة، وأعجبت برقيهم في التعامل، وببعض أخلاقهم وعاداتهم، مالت إليهم ميلةً واحدة، وأصابها الانبهار فالانصهار، إلى أن انقلبت مقاييسها واندثرت ثوابتها، وتبدلت أفكارها، وتشربت من عاداتهم، وتأثرت بهم أشد التأثر؛ فصارت تأخذ عنهم ولا تبالي في ردّ أيّ شيء.. بدءا بتهنئتهم بأعيادهم، ثمّ بتزييها بأزيائهم، واحتفالها فيما بعد بأعيادهم، وتربية أبنائها الصغار وتنشئتهم على مراسم أعيادهم بكلّ دقائقها وتفاصيلها، بدءا بتزيين الشجرة، إلى وضع المغارة في البيت، ووصولا إلى تجهيز مائدة عامرة بالشمع والأضواء والألوان المنسوخة نسخ العيان، بلا تغيير ولا تبديل ولا أدنى حرجٍ أو حياءٍ أو تحفّظ، مع عرض الصور بكلّ جرأة على مواقع التواصلِ؛ لتشجيع الغيرِ على الخير، وأيّ خير!.. حتى أني قد رأيتُ صورة لها مرّة وقد وتزيّت بزيّ المدعو (بابا نويل)، مع وضعها لغطاء الرأس، وحزّ هذا في نفسي كثيرا!.. وحدث ما كان في الحسبان بعد مدة وجيزة، إذ إنها تخلت عن حجابها فيما بعد، وأسقطته تمامًا كما توقّعتُ، بعد أن سقطت قبله جلّ المبادئ والاعتقادات والثوابت التي بني عليها إيمانُها بهذا الحجاب، هداها الله وإيّانا!
فقل لي بالله عليك، كيف يمكن أن أتخطى هذا كله، وأقول لا بأس من تهنئتهم فحسب، على نية التقريب والتحبيب، دون أن أخالطهم في بقية المراسيم؟!!.. كيفَ أعزلُ وأفصل؟ ماذا لو دعوني بعدها لأشاركهم فيها؟ فهل سأقدر بعدها أن أرفض، وقد وافقت على الأصل والفكرة؟ وما العيبُ في ذلك؟ ما الخطأ، وأنا قد هنّأتهم وانتهى الأمر؟ أأعارضُ الاحتفالَ بالشرك وأنا راضيةٌ بوجوده وأهنئُ عليه؟ ثمّ هل أستطيع بعد هذا رفض دعوة الجيران لأبنائي للمشاركة ببعض مراسم احتفالاتهم الدينية الطفولية المعهودة في ذلك اليوم؟ هل أستطيع أن أقنع أبنائي بعدها بأن ما يقوم به الجيرانُ أمرٌ باطل، لأنه بني على باطل؟ وكيف أقنعهم نظريًّا بهذا، وأنا قد أقررت لهم تطبيقيًّا وبفعلِ القدوةِ بصحيته وسلامته وشرعيّته، بعد أن قمتُ أمامهم بتهنئةِ الجيران عليه، وهو الشرك العظيم؟
ثمّ إن جاءت بعد هذا العيد الأعياد الدينية اليهودية أو البوذية، المغمسة بالكفر والشرك والتعدي على حدود الله؛ فكيف لي أن أتجاهلها بعد ذلك؟ كيف وقد أرضيتُ إحدى الأطراف؛ فهل لي بتجاهل طرفٍ آخر؟ كيف لي أن أرضي جارة وأتجاهل أخرى؛ فلا أشاركها فرحتها، أو أهنئها على الأقلّ في عيدها الشركي الدينيّ، وعبادتها للفأرة والبقرة والوثن، وهي التي سبق لها تهنئتي في عيدي؟ هذا حتمًا عبثٌ في عبث، وتالله لهوَ الزورُ بعينه!
إنّ أخذ الأمور بهذا الشكل السطحيّ المفرغ من عمقه وجوهره، لهو اللهو واللعب والتخريب في الدين بحرفيّته، وهو سبب أكثر ما نحن فيه من تدهور وتراجع على شتّى المواقع والصعد.. فلنأخذها من نهايتها، ولنرفعها عالية إلى أقصى مدى، ولنقلها بكلّ وضوح وشجاعة، وبلا أي مداهنة أو تدليسٍ أو كذب، أو ادّعاءٍ أو تزييف، وبصدقٍ كامل واحترام ما بعده احترام: نحن لا نحتفل بأعياد الآخرين الدينية، ولا نشارك بها، ولا نهنئ عليها؛ لأنّه وكما قال نبيّنا الصادق الأمين: (( إنّ لكلّ قومٍ عيدا.. ))، وهذا ليس عيدنا!.. مع ذلك فلا يمنعنا هذا من احترام الآخر، وتركه يمارس شعائره بلا اعتداء أو تخطٍّ للحدود، أو مسٍّ بشعائرنا ومبادئنا، هذا في حال كنا نعيش في بلاد مختلطة، ليس لها أساس إسلامي بحت.. أما إن كان العكس هو الصحيح، وكان الأصل في البلد الإسلام، وتواجد فيها أهل الذمّة، فمن المفيد حينها أن نتأسّى بما فعله عمر رضي الله عنه، وما أدراكَ ما عمر! فقد وردَ في كتاب الفتاوى الكبرى : "وقد شرط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب والصحابة وسائر أئمة المسلمين أن لا يظهروا أعيادهم في دار المسلمين، وإنما يعملونها سرا في مساكنهم .فكيف إذا أظهرها المسلمون أنفسهم ؟ حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " لا تتعلموا رطانة الأعاجم ، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم ، فإن السخط ينزل عليهم " .
وإذا كان الداخل لفرجة أو غيرها منهيا عن ذلك؛ لأن السخط ينزل عليهم .فكيف بمن يفعل ما يسخط الله به عليهم، مما هي من شعائر دينهم؟ وقد قال غير واحد من السلف في قوله تعالى : { والذين لا يشهدون الزور }، قالوا أعياد الكفار ، فإذا كان هذا في شهودها من غير فعل ، فكيف بالأفعال التي هي من خصائصها."، انتهى.
فما بالكَ بمن يهنئ على هذا الزور؟!! فلتلك الصديقة التي طرحت عليّ هذا السؤال، ولغيرها ممّن يملكون طريقة التفكير ذاتها أقول: لا مجاملة ولا محاباة، ولا مداهنة ولا مراوغة، ولا غش ولا تزييف في الدين مع أيّ أحد كائنا من كان، والله أولى بالتعظيم والتكريم والتشريف والمحاباة، ولا نقدّم على الله أحدا، في التعظيم وكسب الودّ، وهذا لا يتعارض مع التقارب والرحمة وحبّ النفع للغير، بل وفيه كلّ الخير والتقريب والمنفعة، والإصلاحِ والتحسين؛ لأنه يفتح بابا للتفكير في الخطأ، ويدفع المخطئ لتبين أسباب إحجام المسلم عن المشاركة في إظهار تلك التهاني، والتفكّر في خلفيّاته ودوافعه، ويحثّه حثًّا على احترام مبادئ الإسلام وثوابته، وجعلها محطّ اهتمام، هذا مع حتميّة أن يكون الأصل في التعامل البرّ والتقوى وخشية الله والرحمة بعباده، وكفّ الاعتداء والأذى، بل وحبّ النفع للعباد ومدّ يد العون لهم والإحسان إليهم ما لم يكونوا من المعتدين، نزولا عند قوله جلّ من قائل: { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } الممتحنة: 8، فحتمًا لا يوجدُ تعارض هنا بين الذوقِ والإحسانِ والرحمةِ، والإحجام عن تقديم التهنئة!
فيا أيتها الصديقة اللطيفةُ والودود، ويا أيها الأصدقاء المقسطون الرحماء؛ فلنكن أكثرَ صدقًا في تبيين معنى الرحمةِ والبرِّ والعدل والقسط.. فأن تكونَ رحيمًا لا يعني أن تحبّ الكافر على كفره، ولا المخطئ على خطئه، ولا الكاذب على كذبه، ولا الضالّ على ضلالته.. أن تكونَ رحيمًا يعني أن ترى الحقَّ في كلِّ شيء، وتنكرَ الباطلَ في كلِّ شيء..أن تكون رحيمًا يعني أن تحاولَ تصحيح المسار وإبعاد المضارّ وهداية الكفّار؛ لترى الجمالَ الحقيقيّ، والإنسانيّةَ الصحيحة، والرقيّ الفعليّ وتعكسهُ لغيرك..
وإلى الذين يتسابقون اليوم من المفكّرين الإسلاميّين الجدد - بحسن نيّةٍ على الأغلب إن أحسنّا الظنّ - لتشريع معايدة غير المسلمين في أعيادهم الدينية، ويزايد أحدهم على الآخر في التودّد والتقرّب ومراعاة شعور وأحاسيس معتنقي الأديان الأخرى، أقولُ: إن كنتَ حقًّا تخشى عليهم وعلى مشاعرهم، دلّهم على الصواب ولا تداهن.. إن كنتَ حقًّا تهتمُّ لأمرهم، عاملهم بالعدل والقسط وأحسن إليهم طيلة العام؛ لكن لا تخفي عنهم أنّهم على خطأ وضلال إذا تبيّن لك ذلك. إن هم رأوا فيك المسلم الحقيقيّ الصادق الذي لا يواري ولا يداري ولا ينافق ولا يجامل في الخطأ، ستعلو بأعينهم، وسيحترمونك أكثر؛ لأنّك تحترمُ مبادئك، ولا تناقضُ شريعتك وحقيقتك.. وتأكّد بعدها أنّهم سيتفهّمون جيّدًا موقفك، بكونك لا تبادلهم المعايدات في أعياد الشرك؛ لأنّكَ ببساطة لا توافقُ على الشرك!
المصدر : موقع إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة