لا مداهنة في الدين
كتب بواسطة نورا عبد الغني عيتاني
التاريخ:
فى : في رحاب الشريعة
1292 مشاهدة
قالت لي بلهجةٍ ملؤها الاستغراب، بعد أن قرأت في صفحتي منشورًا معتدلًا ليّنًا للشيخ عبد العزيز الطريفي، يقضي بتحريم تهنئة النصارى بعيد الميلاد، مع نصحهم وتأليفهم بلا اعتداء ولا تعنيف:
" أليس عيسى نبيا؟ نعايدهم تهنئة بعيد مولد نبي من أنبياء الله على معتقدنا .. لكم دينكم ولي دين .. لا ينبغى إطلاق مثل هذه الأحكام جزافا دون النظر إلى المآل وإلى المقاصد .. إنهم يهنئوننا بمناسباتنا الدينية .. الأمر يختلف تماما إن كنت تعيشين بينهم، تأكلين وتشربين وتعملين معهم .. فهل يعقل أن لا أقدم لهم التهنئة ؟! لم أر دينا قطّ له إتكيت دقيق جدا ومميز ويتسم بالذوق العالي والأخلاق الرفيعة كديننا .. أيعقل أن نطلق حكم التحريم هكذا ؟! إن كان نبينا المتمم لمكارم الأخلاق وقف احتراما لجنازة يهودي والذين هم أشد أعداء الله .. فمن باب أولى أن نهنئ من قال عنهم الله أنهم أقربهم إلينا مودة .. الدين أوسع من ذلك فلا نضيّق واسعا .. نبادلهم التهنئة بميلاد نبي الله عيسى لا بميلاد الرب".. انتهى قولُها.
والحقّ أنّها بدت لي صادقةً جدًّا في محبتها للدينِ وانتمائها إليه، ومخلصةً في انفعالها لأجله؛ لكنّها كانت أكثر ميلًا لإظهار جانب التحبّبِ والتقاربِ مع الآخر، مع مبالغةٍ في هذا، وشيء من تساهلٍ وضربِ مثالٍ في غير محلّه، وتجاوزٍ بالغٍ للهجةِ الشيخ الليّنة الرائعة، ودعوته السمحة لتقبّل الآخر وقبولِ اختلافه، مع تبيان ضرورةِ نصحه بلينٍ واعتدال.. لقد تجاهلت هذا كلّه، ولم ترَ إلّا أنّنا نضيّق واسعا، ونطلق التحريم هكذا جزافا! لكنّي لم أرد أن أجادلها؛ بحكم أنّي قد قرّرتُ مؤخّرا ألاّ أخوض أيّ نقاش، وألّا أدخل في أي جدل مهما كان نوعه، وها أنا أحاول تطبيق ما عاهدت نفسي عليه.. قلتُ سأردُّ على هذا السؤال في مقالٍ منفرد، إذا قدّر الله لي ذلك.. وها هو قد شاء وقدّر وله الحمد والمنّة..
اكتفيتُ بالقول لها: لا أحد يمنعك من تهنئتهم، أنت حرة ونحن أحرار، فلتعايديهم!.. ولعلّ ردّي كان غليظا نوعا ما؛ لكنّه إنّما جاء بناءً على بعض الكلمات التي مرّرتها في اعتراضها، حين قالت، لا نضيّق واسعا، أيعقل أن نطلق التحريم؟! وجزافا!!.. ولستُ أنا التي يحقّ لها أن تحرم أو تحلّل، وكلّ ما بوسعي فعله هو نقل بعض الآراء السديدة والراجحة لبعض أهل العلم الصادقين الذين لمستُ فيهم مثل غيري غيرتهم على هذا الدين، وحبّهم لنفع العباد.. عباد الله أجمعين، المهتدي منهم والضال، المسلم منهم والمشرك! لكنّي فهمت تماما ما الذي استفزّها، وعذرتها؛ فلا بدّ أنها تعيش في بلد أجنبي، يحتّم عليها التعامل مع من هبّ ودبّ من أهل الطوائف والمذاهب والأديان والملل، فتضطرُّ محرَجةً، أو راضيةً لأن تجامل هذا وتراضي ذاك، وتحاول أن تردّ إحسان من أحسن إليها أو هنّأها في عيد أو مناسبةٍ أو أي سبب يستدعي الاجتماع وتبادل عبارات المجاملة، ويفتح بابا للتقارب والتحابب، وهذا مما يحمد عليه دون أدنى شكّ.
وقلّبت سؤالها في ذهني أكثر من مرة.. تخيلت نفسي مكانها، أعيش في بلد يعجّ بالنصارى، من الذين لا يتوانون عن تهنئتي في رمضان، أو في عيد الفطر وعيد الأضحى.. بل ولا يتأخرون حتى عن مشاركتي في بعض الإفطارات الرمضانية.. تخيلتُ نفسي مكانها تماما.. ماذا لو حدث لي نفس الموقف يا ترى؟ هل بإمكاني تجاهل أعيادهم، وعدم تقديم التهنئة، رغم سبقهم بالإحسانِ والمنّة؟ هل بإمكاني إنكارُ المعروفِ والتنكّر للفضل؟.. والحقّ أنّي كنت صادقة مع نفسي إلى أبعد مدى؛ فلم ألزم نفسي بإجاباتٍ مثاليّة، تفترض ما لا يمكن أن يُفرض، أو تنظّر بما لا يمكن أن يطبَّق، أو ما لا ينبغي أن يكون مطبّقًا وإن هُيّئت له الأسباب وجُهّزت على أطباقٍ من ذهب.. فتهيأت لي رؤية كاملة؛ لكن مع خلفيّة مسبقة للموضوع، تأتي قبله لتتمم معناه، وتعطيه النتيجة والإجابة، قبل الإطلال على نهايته..
قلتُ لو أني كنت مكانها، لكنتُ أحسنتُ إليهم طيلة العام، ولم أتأخر عن مشاركتهم في أيّ فرصة تتأتى لي لفعل ذلك.. لو كنت في مكانها، لشاركتهم أفراحهم وأتراحهم قدر المستطاع، على قدر قربهم وحقّهم الذي يقتضي عليّ فعل ذلك؛ فأهنئهم بمناسباتهم العامة العادية التي يحتفلون بها، كولادة مولود جديد، أو نجاح أحد الأبناء، أو أواسيهم وأقدم لهم العزاء عند الشدائد وفي وداع أحبتهم، وما إلى ذلك.. وفي أثناء قيامي بهذه المجاملات اللازمة، أكون قد مهّدت لهم الأصول، وعبّدتُ طريقَ الحقيقة، ومرّرتُ بكل ذوق ومحبة، نبذة عن طريقة تفكيري وتعاملي مع الأمور المختصة بالدين وأساسيّاته.. فأفهمهم بأدب وذوق أني لا أقدم التهاني في أعياد الغير الدينية، ليس معاداةً، ولا تقليلا من قيمتهم وشأنهم، ولا مقاطعة لهم أو نبذا لأشخاصهم واستقلاليتهم، إنما أخبرهم بشكل واضحٍ ومؤطّر وغير خفيّ أنها قصة مبدأ؛ فلكل منا قيم ومعتقدات هي في أصل دينه وروح التزامه، ولا يحق له بعد هذا أن يتخطاها أو يتعدى حدودها.. وإن أفهمتهم هذا، قمت بدوري بإعطائهم كامل الحرية بأن لا يقوموا بتهنئتي هم أيضا في أعيادي الدينية؛ لأنها حتما تعارض معتقداتهم، وأبين لهم بكل صدق ومحبة بأنّ هذا الأمر فعلا لا يضايقني ولا يثير فيّ أي شعور بالحنق أو الغضب عليهم، أو الشعور بالتقصير من ناحيتهم.. أفهمهم هذا بكلّ صدق ووضوح منذ البداية؛ حتى تكون الأمور بيننا على بياض ونقاء؛ فنتفاهم حينها أروع تفاهمٍ وأصدق تفاهم، ونتعامل باحترام وأدب متبادل ورقيّ ما بعده رقيّ، دون أن يطغى أحدنا على الآخر، أو يتعدّى أحدنا على حقوقِ الآخر، أو اعتقادِ الآخر... لكني لا أتردّدُ في إفهامهم سبب إحجامي هذا عن مبادلتهم التهاني في أعيادهم، وإن اضطررت للقول ولو بشكل غير مباشر بأن تهنئتي لهم في عيدهم تتعارض مع مبادئ ديني، وأهم أسسه وقواعده الكبرى التي يبنى عليها الدين كلّه والعقيدة، ألا وهو ( التوحيد )!.. فأخبرهم بشكلٍ جليٍّ بين أنّ الإسلام أتى في الأساس ليدعو الناس إلى توحيد الله الواحد الأحد، وتنزيهه عن كل شريك وزوجة وولد، وأفهمهم أنّ هذا من أهم أصول الدين عندنا، شارحة لهم أهمية هذا الجانب، وأنّه من واجب المسلم الإيمان بهذا تكريما للخالق، وتعظيما وإجلالا له، ونفيا للنقص عنه، واعترافًا لهُ بالكمال.. وحين أشرح لهم هذا كلّه بهدوءٍ ولين، أقول لهم أننا لا نلزم أحدا بعقائدنا ولا معتقداتنا، إنّما نحن فقط لا نجامل فيها، ولا نرائي أو نخاتلُ أحدا على حسابها.. وباعتقادي أنهم سيفهمون بكل بساطة، إن كانوا حقا ممن يهمهم أمر هذه الجيرة أو الصداقة أو العلاقة، أيا كانت تلك العلاقة، وأيا كان نوعها، وإن كانت علاقة مصاهرة!.. وأخال أنهم سيحترمون هذا الأمر ويقدرونه، ولعلهم سيبحثون ويتقصون بعدها عن سبب تمسكي بهذه المبادئ وعدم حيادي عنها، أو مراءاتي ونفاقي فيها، رقم قربي منهم وتعاملي معهم بالقسط والعدل في المناسبات الأخرى، وإحساني إليهم، وبري بهم.. ولا أخالهم سيزينون هذا بميزانِ التجاهل والتحقير، بل كلّي ثقةٌ أنهم سيعتبرونه قمّةً في الوضوحِ والشفافية والصدق في التعامل، والاحترام للمبادئ والشرائع الإلهيّة، والتعظيم لها.. وسيحفظون لي هذا الجميل؛ لأنّي سأكونُ في نظرهم مثالًا للشخص الصادق والأمين الذي يهفو كلّ الناس للتعامل معه، ذاك الذي لا يكذبُ أو يغشّ، ولا يجاملُ أو ينافق!
فهم إن رأوا فيَّ المسلم الحقيقي، البرّ الرحيم، الذي لا يؤذي أحدا ولا يعتدي على من لا يعتدي عليه، لن يؤثر فيهم حتما عدم تقديمي التهاني لهم، بل وسيسعون أكثر للتعرف على هذا الدين الذي ينظم الأمور، ويضع كل شيء في نصابه الصحيح، ولا يجامل في الخطأ، بل يكون واضحا وضوح الشمس في قلب النهار. فيبدي النصيحة بلا تردّد، لكن بشكلٍ غير جارح، ولا يخفي الشواذّ ويزينها ويحليّها، مع مراعاة حفظ جانب الحرية الكاملة لكل طرف، وعدم إجبار أحد أو إلزامه بقبول النصيحة أو سماع الرأي الآخر، نزولا عند قوله تعالى في كتابه الكريم: { لا إكراه في الدين }.
المصدر : موقع إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة