عندما تصبح الوسيلة غاية!
أكثر المعيقات التي تعترض الإنسان في سعيه في الحياة اختلال المعايير والموازين التي يضبط بها خطواته، وبما أن كل الموجودات في هذا الكون عرضة لأن تصاب بعطل أو تلف ما تحتاج معه لصيانة دورية بما فيها الصحة الجسدية للإنسان كذلك البوصلة التي توجه سعيك وتحدد بها قبلتك ووجهتك المقصودة قد تتعرض لعطل أو خلل في مؤشرها مما يؤدي إلى انحرافها عن الوجهة الصحيحة والمقصد الأسمى من وجودك لذا عليك تفقدها بين حين وآخر كي لا تتيه خطواتك ويتشتت انتباهك وتعتل معاييرك.
والوجهة التي تشير إليها بوصلتك في كل دروب حياتك وسعيك ومراحل وجودك إنما هي الغاية والمقصد الذي من أجلها كان هذا الوجود بمشيئة الله وقدره، وإذا نسي الإنسان هذه الغاية التي من أجلها خلق ووجد في هذه الحياة ابتداءً فلا شك سيغفل عن النهاية التي يسير إليها انتهاء، وإذا غفل الإنسان عن سبب وجوده ونهاية مآله فالنتيجة الحتمية لذلك تعثر الخطى واضطراب الرؤية وضلال السعي .
وإذا ما نظرت لأوضاع المجتمعات على كل الأصعدة وجدت فساداً يعيث فيها من انتشار لحالات الطلاق والانتحار والتفكك الأسري ناهيك عن الفساد الذي طال السياسة والاقتصاد وسائر المجالات ولو تفكر الإنسان في السبب الرئيس في ذلك لعلم أن خلل المقصد وضبابية الرؤية وتأرجح البوصلة هو الذي أدى إلى كل هذه الفوضى في ذات الفرد وواقع المجتمع على حد سواء.
إن خلل المقصد وضبابية الرؤية وتأرجح البوصلة هو الذي أدى إلى كل هذه الفوضى في ذات الفرد وواقع المجتمع على حد سواء
فعندما نعلي من شأن الوسيلة ونجعلها محور حياتنا ونقطة تمركزنا وأساس وجودنا الذي إذا تزعزع اضطرب بزعزعته بنياننا، تصبح الوسيلة عندها هي المحرك والدافع لنا في كل شيء حتى إذا فقدناها فقدنا الدافع من وراء هذا الوجود وزهدنا في كل شيء من حولنا فتعمى أبصارنا عن إبصار غيرها وتصم آذاننا عن كل ما سواها، وفي هذا الحالة يعيش الإنسان فوضى عارمة تبعثر أوراقه وتبدد جهوده وتفقده جمالية كل الموجودات من حوله بل وتفقده كل أسباب الوجود التي تمده وتدفعه ليواصل سعيه ما دامت هذه الوسيلة التي تعلق بها وجعلها قبلة روحه وغاية سعيه قد غابت عن واقعه ولو لبرهة من الزمن فأصبحت آلهة تعبد من دون الله.
والأمثلة في كتاب الحياة وصفحات الوجود كثيرة لكن نسوق بعضها كمحاولة لتوضيح الفكرة وضبط السعي كي لا يظل الإنسان مبتوراً عن نور الله الذي يبدد كل الظلمات والحجب التي تحجب الإنسان عن ربه وغايته في هذه الحياة الفانية.
فتأمل المال وسعار الناس وسعيهم المحموم حوله والذي ما وجد إلا ليكون وسيلة تعين الإنسان على هذه الحياة فإذا به يصبح معبوداً وغاية في ذاته يمتنع الإنسان عن أداء الحقوق منه وأبسط هذه الحقوق أداء الزكاة والصدقات والتي هي أقل ما يفعله المرء تقرباً وامتثالاً لله الذي استخلفه به ابتداءً، فتجد المعاملات الربوية تنتشر في ديارنا انتشار النار في الهشيم والطبقية تفصل ما بين البشر فقد تجد المرء يعاني من أمراض التخمة والسمنة وجاره أو صاحبه بل وأخاه يطوي ليله ويقاوم نهاره بأمعاء خاوية تنتهي به إلى تجمع النفايات لعله يجد فيها ما يسد رمقه.
وانظر لطلب العلم الذي أصبح الغاية منه والمنتهى شهادة نتباهى بها بين الخلان أو لقب أو مظهر اجتماعي نكسب منه مكانة نتعالى بها على أعناق البشر والعباد على أن العلم الحق لا يزيد المرء إلا تواضعاً ومعرفة قدره بين مخلوقات الله فهو تكليف يزيد مساحة المسؤولية والمساءلة التي سيحاسب المكلف على صغيرها وكبيرها.
وانظر لحديث المصطفى يصف حال أولئك الذين غرّتهم مظاهر الأشياء وسلبت لبهم برائقها الساطعة عن القيام بحقها فجعلوا منها قبلة سعيهم ليقال عنهم ما يرضي غرورهم ويشبع شهواتهم بدلاً من أن يضعوها في نصابها وسائل ترتقي بهم في أعالي الجنان: "إِنَّ أَوَّلَ الناس يُقْضَى يوم الْقِيَامَةِ عليه رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قال فما عَمِلْتَ فيها قال قَاتَلْتُ فِيكَ حتى اسْتُشْهِدْتُ قال كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ على وَجْهِهِ حتى أُلْقِيَ في النَّارِ وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قال فما عَمِلْتَ فيها قال تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ قال كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هو قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ على وَجْهِهِ حتى أُلْقِيَ في النَّارِ وَرَجُلٌ وَسَّعَ الله عليه وَأَعْطَاهُ من أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قال فما عَمِلْتَ فيها قال ما تَرَكْتُ من سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فيها إلا أَنْفَقْتُ فيها لك قال كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هو جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ على وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ في النَّارِ" [صحيح البخاري]، فما أشبه حال هؤلاء بحال الذين قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ} [الزمر:3].
إن فقدان البوصلة في هذه الحياة يخل في كل أمورنا بل إن غياب الغاية عن رؤانا -ولا سيما عن رؤى أولياء الأمور والقائمين على تربية النشء- يورث التفكك في المنظومة الفكرية والروحية والقلبية لديهم، فقد تسمع عن انتحار طالب علم قصر أداؤه ولم يحقق حلمه في الوصول للعلامة التي حددها لنفسه أو ربما تسمع عن فقير حوله فقره لمجرم يعتدي على الحرمات أو غني لم تزده تكديس الأموال إلا تكديساً من الحجب حول قلبه وروحه.
إن غياب الغاية عن رؤانا -ولا سيما عن رؤى أولياء الأمور والقائمين على تربية النشء- يورث التفكك في المنظومة الفكرية والروحية والقلبية لديهم
وانظر للتنافس على السلطة التي غايتها خدمة وسياسة العباد وحفظ البلاد وإقامة العدل والانتصار للمظلوم من الظالم والعمل بشرع الله، فهي وسيلة لتحقيق حياة كريمة نؤدي فيها ما علينا من واجبات دون اندثار حقوقنا، وإذا بها تصبح غاية يتصارع عليها البشر صراع الغاب فلا حرج في الوصول إليها ولو كان على أشلاء ودماء وجماجم الأبرياء.
إن التشبث بالوسائل والوقوع في حبائل شهواتها دون رقابة على النفس وضبط معاييرها يقودنا لتقديس الحطام الزائل والتفريط في النعيم الدائم ، فتعلقك بالأسباب ونسيانك للمسبب يجعلك تدور في حلقة مفرغة، تتثاقل نفسك وتخلد بك إلى الأرض وتقعد بك عن التحليق نحو سر وجودك وتثبط من روحك فلا تتطلع إلى السماء حيث منبتك ومسقط رأسك وموطنك الأول ومستقرك الأخير، فتسير في ركاب الشهوات تميل حيث تميل وتكبو حيث تكبو وقد أهلت التراب على بوصلتك التي تصحح مسارك وتضبط خطواتك فتأتي نادما كاسفا حيث لا ينفع الندم.
إن الطريق الوحيد لتصحيح أوضاعنا ومساراتنا وتوحيد جهودنا وجمع أشتاتنا أن نضع كل شيء في منصبه وأن الإنسان مسؤول ومحاسب عن كل ما جعله الله فيه خليفة سواء في علم أو منصب أو جاه أو مال، وأنه مهما جمع من هذا وذاك ولو وصل الثريا لن يغير من حقيقة أنه من التراب وإلى التراب وسيأتي يوم القيامة فرداً بلا ألقاب ولا مناصب ولا أموال، فلا تلهث وراء الوسائل فالتشبث والانشغال بها عن غاية وجودك وخلقك يجعل حالك تماماً كما الظامئ يشرب الماء الأجاج كلما شرب منه ازداد ظمأً أو كما قال الله فيه: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39].
المصدر : موقع بصائر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة