العبادة في زمن الفتن كالهجرة
عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صبر، فكان خيرًا له. الحديث[1]
قال ابن مسعود رضي الله عنه:” إنكم ترون الكافر من أصح الناس جسما، وأمرضهم قلبا، وتلقون المؤمن من أصح الناس قلبا وأمرضهم جسما، وايم الله، لو مرضت قلوبكم وصحت أجسامكم، لكنتم أهون على الله من الجُعلان”[2]
وإن أشرف المقامات وأعلاها وأسعدها مقامة العبودية، وهي غاية الوجود وحقيقة الإنسان، ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163].
واللجوء إلى عبادة الله والعياذة بعظمته دوما؛ هو الذى يزول كل ضيق، ويُفرج كل هم؛ ويبدل الغم فرحا وسرورا، ويجلب السكينة ويورث راحة الضمير واطمئنانه وهدوء البال، والعبادة هي العروة الوثقى التى يلجأ إليها في الرخاء والشدة ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ [الذاريات: 50].
حقيقة العبادة
العبادة المأمور بها في الشرع: تتضمَّن معنى الذل، ومعنى الحب؛ فهي تتضمَّن غاية الذل لله، بِغَاية المحبَّة له، وهي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة.
فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم، والمسكين، وابن السبيل، والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة.
وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك، هي من العبادة لله.
وذلك أن العبادة لله هي: الغاية المحبوبة له والمرضية له التي خَلَق الخلق لها، كما قال الله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].[3]
أحوال السلف في وقت المحن
لم تكن الابتلاءات في الإسلام مطلبا منشودا أو أمنية يتمناها عبد مؤمن، لذا كان يقول مطرف بن عبد الله بن الشخير: لأن أعافى فأشكر أحب إليّ من أبتلى فأصبر.”[4]
وقد أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسؤال الله تعالى العافية -التى تعنى صحة البدن والنفس والعقل المعينة على الطاعة- فقال:”سلوا الله العفو والعافية، فما أوتي أحد بعد يقين خيراً من من معافاة”[5]
ولكن الناظر إلى أحوال سلف الأمة عند نزول البلاء والمصائب التي من أقدار الله المؤلمة يجدها في أعلى سُلّم العبودية، وقد كان السلف في تمام الافتقار إلى الله تعالى حينما تأتيهم المحن والشدائد حيث تزداد أحوالهم في الضراعة والذل والانكسار بين يدى الله عز وجل مفرج الهموم والغموم، وكانت الصلاة من أعظم ما يفزعون إليها في النوائب، لأنها محل الدعاء والاستعانة والاستغاثة بالله جل في علاه، ويقول علقمة: “إذا فزعتم من أفق من آفاق السماء؛ فافزعوا إلى الصَّلاة”.[6] وهي مفزع الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ألم به أمر مكروه.
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر، صلى»[7]. وقد فزع إلى الصلاة قبيل غزوة بدر طلبا للنصر.
ولما استيقظ عليه الصلاة والسلام ذات ليلة، فقال: “سبحانَ الله، ماذا أُنزلَ الليلة من الفتن، وماذا فُتح من الخزائن، أيقظوا صواحباتِ الحُجَر” وفي رواية في البخاري: “حتى يُصلِّين”[8]، قال ابن حجر: “وفي الحديث استحبابُ الإسراع إلى الصَّلاة عند خشية الشَّرِّ، كما قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: من الآية45] [9]
ولما نعي إلى ابن عباس رضي الله عنهما أخوه قثم وهو في سفر، فاسترجع، ثم تنحى عن الطريق، فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما السجود، ثم قام يمشي إلى إلى راحلته، وهو يقولُ: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [10]وعن عبيد الله بن النضر قال: كانت ظلمة على عهد أنس رضي الله عنه، فأتيت أنساً فقلت: يا أبا حمزة! هل كان يُصيبكم مثلُ هذا على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟ قال: معاذَ الله، إن كانت الريحُ لتشتدُّ فنبادر إلى المسجد مخافةَ القيامة”[11]
ومنهم من يخلو في بيته أيام المصائب تفرغا للعبادة والدعاء للمسلمين، كما جاء عن مسروق التابعي الجليل أنه مكث في بيته أيام الطاعون ويقول: أيام تشاغل فأحب أن أخلو للعبادة، فكان يتنحى فيخلو للعبادة، قالت زوجته: فربما جلست خلفه أبكي مما أراه يصنع بنفسه، وكان يصلي حتى تورم قدماه وسمعته يقول: الطاعون والبطن والنفساء الغرق من مات فيهن مسلما فهي له شهادة.[12]
قال وهب بن منبه رحمه الله: إن من كان قبلكم إذا أصاب أحدهم بلاء عده رخاء [13]!
ولما أصيبت امرأة منهم لم تتوجع بل ضحكت وقالت: إن لذة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه [14].
وهكذا تسلحوا في أوقات المحن بالصلاة والدعاء والصبر والرضى والاحتساب ونحوها، فكانت عاقبة أمرهم فرجا وفرحا.
أجر العبادة في زمن الفتن
قال الحسن البصري: استوى الناس في العافية، فإذا نزل البلاء تباينوا.[15]
وهنا نقطة التمييز بين البررة والفجرة، وبين المؤمن والكافر، وقد اجتمعوا جميعا في البلايا والأمراض والمصائب، ولكن ليسوا سواء في النتيجة والثمرة والأجر، وإنما العاقبة للمتقين.
يقول عليه الصلاة والسلام: « ليس من أحد يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابرا محتسبا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد» [16]
قال ابن حجر رحمه الله: ” اقتضى منطوقه أن من اتصف بالصفات المذكورة يحصل له أجر الشهيد وإن لم يمت [17]” ..
وهذا الحديث بشرى لعامة المسلمين المتصفين بالصفات الواردة فيه، ولكن ثمة بشرى أخرى أخص، هو قوله عليه الصلاة والسلام:” العبادة في الهَرْج كهجرة إليَّ”[18]
ولاشك أن من مكث في بيته محتسبا ومتفرغا للعبادة فإن أجره أعظم ممن دونه.
قال الإمام النّووِي: المراد بالهَرْج هنا: الفتنة، واختلاط أمور الناس. وسبب كثرة فضل العبادة فيه: أن الناس يَغْفُلون عنها ويَشْتَغلون عنها، ولا يتفرّغ لها إلا أفراد[19]“.
قال القرطبي:” إن الفتن والمشقَّة البالغة، ستقع حتى يَخِفَّ أمر الدين، ويَقِلَّ الاعتناء بأمره، ولا يَبْقَى لأحد اعتناء إلا بأمر دنياه ومعاشِه نفسِه، وما يتعلق به؛ ومن ثَمَّ عَظُم قدرُ العبادة أيام الفتنة”.[20]
وقال ابن الجوزي: الهَرْج: القتال والاختلاط، وإذا عَمَّت الفتن اشتغلت القلوب، وإذا تعبَّد حينئذٍ متعبِّدٌ، دلَّ على قُوَّة اشتغال قلبه بالله عز وجل فيَكْثُر أجره”.[21]
والكيس من دان نفسه واشتغل بأنواع العبادات المستطاعة في وقت المحن، وقلل الاهتمام بمتابعة الأحداث والأحوال، لأن الإقبال على العبادات من أسباب النجاح من المصائب والأمراض والشدائد، وتحقيق الفرج والسلامة والأمان.
[1] – رواه مسلم (2999).
[2] – صفة الصفوة 1/190
[3] – ينظر: العبودية لابن تيمية ص:44، 48
[4] – الحلية 2/200
[5] – رواه أحمد (6) والنسائى في الكبرى (10651) واللفظ له.
[6] – مصنف ابن أبي شيبة. (8318)
[7] – رواه أبو داود (1319) وحسنه الألباني.
[8] – صحيح البخاري (115).
[9] – فتح الباري لابن حجر 1/211،
[10] – شعب الإيمان 7/114
[11] – رواه أبو داود في السنن (1196)
[12] – الطبقات لابن سعد (6/ 81)
[13] – حلية الأولياء 4/58
[14] – المجالسة وجواهر العلم7/159
[15] – صيد الخاطر ص:284
[16] – رواه البخاري (3474).
[17] – فتح الباري 194/10
[18] – رواه مسلم (2948).
[19] – المنهاج 18/88
[20] – فتح الباري 13/75
[21] – كشف المشكل من حديث الصحيحين 2/42
المصدر : إسلام أون لاين
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة