حساب آخر السنة.. بين التعقُّل والفتنة!
لقد تعوَّد أكثر الناس والمحسوبين على المسلمين منهم في بلدنا، تحديدًا، على أن يجمعوا بين الإثْمَين معًا، مع ظنِّهم أنهم قد نالوا السعادة، وذلك باحتفالهم مع أصحاب أهل الدين النصراني بما يُسمّى ميلاد رأس السنة، ومن ثم الاحتفال برأس السنة الميلادية.
أما المناسبة الأولى، فهي التسابق من الكثيرين، بعلم منهم أو بجهل، على إحضار شجرة الميلاد ووضعها في البيوت والمحلات، مع ما يسمى بابا نويل، وذلك تقليدًا أعمى وممجوجًا بما لا يتفق لا مع شريعتنا ولا تقاليدنا. أما زعمهم أن ذلك برهان على الوحدة الوطنية والعيش المشترك، فهو ما يدفع البلديات إلى وضع شجرة عملاقة في مدينة مسلمة محافظة بمناسبة تحت هذا الشعار المذكور. ولو سلمنا أن هذا مطلوب حفاظًا على روح المواطنة في بلدٍ متعدد الطوائف والمذاهب، فلمَ يكن ذلك من جانب واحد؟ ولِمَ لا يشاركوننا بذكرى رأس السنة الهجرية؟ مع ترك أكثر المسلمين أصلاً لذكرى ميلاد السنة الهجرية، وجهلهم بها اسمًا ورقمًا.
لقد ذكرنا ما سبق ذكره من أمر المخالفة الشرعية هنا أولًا لنصل بنتيجة إلى الحديث الذي هو لبّ مقالنا وجوهره، وهو حساب السنة المنتهية من عمر كل واحد منا، سواء كانت هجريّة أو ميلادية، فالأيام كلها لله. فالشاهد قوله هنا هو وجود من يحكمه ويتحكم به عقله، فينظر إلى حلول نهاية عام من عمره على أنها ليست محطة سعادة وفتنة، ينبغي له أن يقيم ليلته الأخيرة ليس مراجعةً للحساب كما يفعل التاجر في آخر العام، حيث إنه وكما يقال، يجري جردًا كاملًا لكل شاردة وواردة من سنة عام كامل لتجارته، ويحدد فيها النصيب من الربح والخسارة، حتى يكون على بينة ونور مما هو نادم عليه أو متفائل بتحقيقه، وإن لم يفعل ذلك فلا يمكن أن يحدد نفسه من العقلاء.
هذا في الحساب التجاري الرقمي، وأما في الجانب الإنساني الواقعي، فالامر مختلف كليًا. ذلك أن كل عام يمضي من عمر الإنسان ينسلخ معه من عمره جسدٌ يتقلَّب فيه الشكل والمضمون من طفولة تحكمها البراءة إلى فتون تسير بها الشقاوة إلى شباب تقوده الفتنة إلى رجولة في أشدها من الفحولة إلى هرم وشيخوخة تنحسر فيها كل عناوين القوة والبطولة. وهذه هي مراحل العمر كلها، وقد يقطعها الإنسان كلها أو قد يقطع بعضًا منها على ما قدّر الله له من أجَلٍ وكِتاب.
والسؤال هنا: لِمَ يحتفلُ مَنْ يحتفل برأس السنة فيجمع بين إثم التشبُّه بالمشركين وإثم الفرح بضياع سنة وراء سنة من عمره، وهو في عيد وزغاريد وإطلاق رصاص ببهجة وافتخار بعام جديد؟ وليس نعني بذلك أن نحوِّل رأس السنة إلى مأتم، ونغلق الأبواب، ونطفئ الأنوار، وننتحب ونبكي، فليس ذلك، ولا ما يناقضه، نبغي. بل لا بد أن يبحث العقلاء عما ينبغي تذكُّره وعدم الغفلة عنه قبل أن يلقى كل واحد منا رب السماء، ويخرج من الدنيا بفراغ وخواء، وقد كان يمنّي نفسه بكل ما تشتهيه بلا رادع وبلا وازع، وكأنه ساوى بين هبوط الأرض وصعود السماء.
وممّا يحضرني قوله هنا وما أعده مناسبًا ذكره: إن كل ما قلناه من غفلة الناس في كل عام يقطعونه من حياتهم، وهم في غفلة ساهون يلعبون ويتلهون، يشبه حال رجل أراد أن يجلس في صباح يوم من الأيام، وقبل أن يبزغ على الدنيا نور الشمس، أقول إنه على مرتفع يطل على البحر، جلس متأملاً، وقدر له أن يرى كيسًا يخرج منه شعاعًا خافتًا يعلو ويخبو بسبب غلبة العتمة عليه. فأخذه بين يديه، وكان الكيس ممتلئًا بهذه القطع المضيئة. فلم يخطر للرجل هذا أن في الكيس بين يديه ثروة حقيقية. بل إنه أخذ يستمتع بأن يلقي في البحر حبة تلو الأخرى، ويسمع صوتها يضرب في أذنه وهي تلامس ماء البحر ثم تستقر في قعره. وما زال على حاله هذه حتى شارف ما في الكيس على النفاد، وقد ظهر نور النهار. وهنا كانت المفاجأة، فقد صدم هذا الرجل وهو يرى أن الكيس الذي كان يتسلى بمحتواه إنما هو عبارة عن حبات من اللؤلؤ الباهظ الثمن. ولكن أنى له أن يعيد ما قد فات وما قد ابتلعه البحر في الأعماق؟ ولم يعد يبقى إلا الندم على ما قد خسره بين يديه وفات.
إن حال الإنسان في آخر سنة من عمره إذا ما كان مسرفًا على أمره، مستهترًا في البحث عما قد يكون له ذخراً ليوم حصاده، يشبه حال من ذكرنا ممن هم كثر من أمثاله. يكون الذهب من العمل الصالح بين أيديهم، فيلقونه في بحر الشهوات، ولما تضيء عليهم بصيرة الآخرة بعد فراق ظلمة الدنيا، وقد كانوا نيامًا، فقاموا. كما قال سيدنا علي رضي الله عنه: "الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا". وهذه هي الحقيقة التي لا ينبغي إغفالها ولا التغافل عنها في حساب كل سنة تمضي، ونمضي معها إلى لقاء الله، والكيس من عمل لهذه الساعة قبل أن يزف ميعادها. ويعقل أن كل سنة من عمره تنقضي أيامها هي مدعاة للنظر والاعتبار، لا للافتتان بقشور الدنيا، وترك ما ينبغي فيه الاعتبار.
والله يهدي السبيل. الحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"




حساب آخر السنة.. بين التعقُّل والفتنة!
من المحراب إلى الطمأنينة: قصة ابنة عمران في القرآن
تمييز وتبيين: بين لكم دينكم ولِيَ دين
هل تعبّر هوّية الـنّصوص عن هويّتنا في مناهجنا الدّراسيّة؟
اقرأ...