تحت رحمة فيروس لا يُرى إلا بالمِجْهر الإلكتروني، أصغر من الإنسان بخمس ملايين مرّة، يعيش الناسُ في رُعب متزايد بعد أن تُنقل إلى مسامعهم أعداد المصابين والوَفَيَات، فيخيّم عليهم شبحُ الموت.. ثم تُفرض عليهم _قادةً وشعوباً، من غير تفريق_ إقامةٌ جبرية، تَزُجُّهم طوعاً أو كَرْها في بيوتهم، ويُحال بينهم وبين مراكز عملهم ودراستهم، فتُسدّ عليهم نوافذ الترفيه واللهو، ويُحجزون عن نواديهم ومقاهيهم وأماكن تجمّعاتهم في مظهرٍ من مظاهر الضعف البشري الأصيل المتمثل في البيان الحكيم: {وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (النساء: 28).
ومع طول مدّة الحَجْر يكثر الجدل_ وخاصّة بين المسلمين_ في أسباب هذا الوباء الذي حرَمهم حتى من ارتياد مساجدهم التي تعلقت بها قلوبُهُم، فمنهم من يقول: هو غضب ربانيّ جاء تأديباً وربما استبدالاً للناس، ومنهم من يقول: إنّ هذا الوباء من سُنن الله الماضية في الكون، والله سبحانه يبتلي بالخير والشرّ، ولا أحد يعلم حكمتَه ومراده.
و للخروج من هذا الجدل تستوقفنا بشكلٍ سريع حقيقتان اثنتان:
الأولى : لا يمكن لأحدٍ أن يزعُم قاطعاً أنّ الله تعالى قد غضب على الناس وأخذ يصبّ عليهم غضبَه، مع التأكيد أن ذلك غيرَ مستبعد، فقد ورد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم _ بعد سلسلة من المآسي والإيذاءات التي مرّت به، و بعد رجوعه من الطائف وقد خيّب القوم ظنّه_ دعا ربّه بدعاء واجف، جاء في بعض عباراته : 'إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي' أو 'إن لم تكن غضبانَ عليّ فلا أبالي ' كما في رواية الطبراني في المعجم الكبير.
هذا وكلّنا خبير بالداعي _صلوات الله عليه وسلامه_ الذي أمضى حياته كلّها كفاحاً وجهاداً في سبيل تبليغ رسالة ربّه.. فها هو يتخوّف بأدب لا نظير له أن يتعرض لغضب ربّه، فكيف بأمثالنا، ونحن أهل المعاصيّ؟!.
والحقيقة الثانية : أنّ هذا الوباء، هو واحدٌ من العقوبات التي يرسلها الله تعالى على الناس بسبب الفساد الذي كسبته أيديهم بُغيةَ أن يرجعون، ويعضد ذلك البيانَ المحكم في قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (الروم:41). وعليه : فهذا العقاب المرسل عذاب يعذّب الله به من يشاء ويرحم به المؤمنين ،كما ورد في حديث الطاعون في صحيح البخاري.
ثم إنه لابدّ لنا من مراجعة على مستوى الفرد والجماعة، والحاكم والمحكوم، وقراءة الحال المتضعضعة التي هيّأت لهذا الوباء الانتشارَ والفتك، حتى قالت عنه منظمة الصحة العالمية: فيروس كورونا وباءٌ عالمي خارج السيطرة.
وباستقراءٍ للأحداث المنصرمة، وخاصةً في السنّة الأخيرة، يمكن التعرف بسهولة على مكامن الجروح العميقة والأعمال المُشينة التي اقترفها أقوامٌ وقد تسمّوا باسم الإسلام ولبسوا ربقته. منها أنّهم:
_ تواطأوا مع الصهاينة فباعوا قضية الأمّة بمباركة ظاهرة وخفيّة لـ(صفقة الاستسلام)، وحالفوا الأعداء بل وتولَّوْهم في تحدّ أحمق لأمر الله جلّ في علاه في قوله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (المائدة:51).
_ سكتوا عن الجرائم التي تُقترف بحقّ المسلمين، التي كانت تبثّها قنوات الأخبار ليلَ نهار في مشاهد من القتل والتدمير والترحيل فتذوب لها أكبادُ الوحوش.
_ تعرّضوا للقرآن الكريم _كتابهم ودليل هدايتهم _ فأنكروا آيات الجهاد حتى قال أحدّهم _وهو من الساسة_ عن استكبار منه: (ليس معقولاً أن يكون الفكرُ الذي نقدّسه على مئات السنين يدفع الأمة بكاملها للقلق والخطر والقتل والتدمير في الدنيا كلها)!. في حين لا يستقيم لسانه لقراءة آيةٍ واحدة من غير لَحن، فضلاً عن تفسيرها وإرشادها..!
_ حذفوا من مناهج التعليم كلّ ما يَمُتَّ إلى المفاخر من قصص البطولة والفتوحات، وأبقَوْا على نصوص الصفح والتسامح...!
_ استبدلوا استجلابَ القِيان والشُّذّاذ من غربٍ وشرق إلى أرضٍ كان يمشي عليها الإمام مالك حافياً مخافة أن يطأ بنعله موطئاً مشى عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المطلوب في قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران:104) فكان منهم الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف..!.
_ سخّروا الإعلام ليجلي صورَهم ويبرر أفاعيلهم لتسلم لهم كراسي الحكم، وبذلوا للدراما مالم يبذلوه لفقرائهم ومحتاجيهم، فكانت المسلسلات سُبلاً لتعليم الفاحشة، والخيانة الزوجية، والعلاقة الغرامية بين الشبان والشابّات، والكلام البذيء الذي يندى لسماعه الجبين من الخَجَل... حتى غَدَوْا صورة حيّة للمشهد الذي تنبّأ به نبيّ الإسلام صلى الله عليه وسلم في قوله: 'لم تظهر الفاحشةُ في قومٍ قط حتى يُعلنوا بها إلاّ فَشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مَضَوا' (سُنن ابن ماجه وصحّحه ابن حبان).
_ خاف علماؤهم من السلاطين أكثر من خوفهم من ربّهم، فخالطوهم وتزلّفوا لهم، فباعوا دينهم بدنياهم. قال فيهم الإمام ابن الجوزي في كتابه (تلبيس إبليس) : 'ومن تلبيس إبليس على الفقهاء مخالطتُهم للأمراء والسلاطين ومداهنتهم، وترك الإنكار عليهم مع القدرة على ذلك، وربما رخّصوا لهم في ما لا رخصة لهم فيه لينالوا من دنياهم عرضاً، فيقع في ذلك الفساد لثلاثة أوجه، الأول الأمير يقول لولا أني على صواب لأنكر عليّ الفقيه، وكيف لا أكون مصيباً وهو يأكل من مالي، أما الثاني فإن العامّة تقول لا بأس بهذا الأمير ولا بماله ولا بأفعاله، فإنّ فلاناً الفقيه لا يبرح عنده، أما الثالث فإنه يُفسد على الفقيه دينه بذلك'.
لعل هذه الأعمال المخزية والمواقف الرديئة في تاريخ أمتنا الحديث هي من كانت السبب في تسليط الله _جلّ وعلا _ هذا الوباء الذي أرهب العالم .
و لعلّها كذلك فرصة _بل هو المراد_ للأوبة والرجوع إلى الله، والتضرع بالدعاء والاستغفار بين يديه كما أرشد ربنّا عزّ وجل في قوله: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} (الأنعام: 43) ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونصرة الحق وأهله. فها هو الغرب الذي أغمض عينيه طويلاً عن هذا الدين العظيم، بل وعاداه في كثير من الأحيان، يرنو اليوم _ تحت رهبة الوباء _ لتعاليمه ويدعو إليها، فيرفعُ التكبير الذي مُنع لزمن طويل على ذُرى منابر إيطاليا وإسبانيا وألمانيا.
ويُبرز إعلامهم تعاليم إسلامية عن الطهارة والحَجْر الصحي، فتنقل جريدة نيوزويك الأميركية مقالاً للكاتب 'كريج كونسيدين' يتحدث فيه عن النصائح المهمّة التي قدّمها نبيّ الإسلام حول منع ومكافحة الأوبئة، ويستشهد بأحاديث عدّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنْ كان هذا هو الشأن في بلاد الغرب اليوم ، فإن الحاجة في بلادنا الإسلامية لأنْ يؤوب أصحاب الأعمال المشينة إلى ربّهم ويراجعوا حساباتهم ويتجلببوا بجلباب العبودية لله تعالى أمسُّ وأدعى.
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن