الاستبداد وصناعة الأمراض الاجتماعية
كتب بواسطة إحسان الفقيه
التاريخ:
فى : آراء وقضايا
1030 مشاهدة
يقول الأديب عبد الوهاب عزام في إحدى روائع كتابه المسمى بـ»الشوارد»: «الإنسان- بفطرته- نفورٌ من الذل، آبٍ على الحيْف، ولكن تحيط بالناس أحوال، وتتوالى عليهم حادثات، فيُراضون على الخضوع حينا بعد حين، ويسكنون إلى الخنوع حالا بعد حال، حتى يُدربوا عليه، كما يُستأنس السبع، ويُؤلف الوحش».
إن مخاطر الاستبداد لا تنحصر في سلب حقوق الشعوب، ونهب ثرواتهم، وقمع حرياتهم، وإنما الاستبداد يعيد صياغة الشخصية وفق منظومة مهلهلة من القيم السلبية بطول الأمد، ومن خلال المسار التراكمي لآثار ذلك الاستبداد تنشأ الأمراض الاجتماعية، التي تكون شاذة عن المجتمع في بداية نشوئها، حتى يعتاد الناس عليها وتصبح هي السمات الشائعة.
ولئن كانت هناك علاقة طردية بين الحكام والرعية، إلا أنه من الظلم البيّن، أن يصر فئام من الناس على تحميل الشعوب مسؤولية فساد حكامهم واستبدادهم، في حين يتجاهلون مسؤولية الحكام عن الكوارث الاجتماعية، التي خلّفها استبدادهم وتعسفهم، كنوع من التكريس للظلم الاجتماعي.
أول ما يغرسه الاستبداد في نفوس الرعية، أخلاق العبيد، الناشئة من طول أمد الطغيان وتحطيمه فضائل النفس البشرية، وأبرز أخلاق العبيد، كما عبر بعض الأدباء هي الاستخذاء تحت سوط الجلاد، والتمرد حين يُرفع عنهم السوط، والتبطر حين يتاح لهم شيء من النعمة والقوة. لذلك حين يقول المستبدون إن الشعوب العربية ليست مؤهلة لإطلاق الحريات، فإن في هذا وجها من الحقيقة، ليس من جهة قلة الوعي، والتخلف الثقافي لدى تلك الشعوب، وإنما من جهة القيم السلبية، والأمراض الاجتماعية التي استوطنت نفوسهم بسبب طول أمد الاستبداد، فهذه الشعوب المظلومة التي حُكمت بالحديد والنار، ودأبت على العيش داخل القفص، ما إن تتاح لها مساحة من الحرية، حتى يختلط في سلوكياتها مفهوم الحريات والانفلات، لذلك انعكس هذا الخلط على آراء المصلحين، الذين أكدوا على لزوم الحزم والشدة مع الشعوب الإسلامية والعربية، ومن ذلك ما قاله الإمام محمد عبده «إنما ينهض بالشرق مستبد عادل»، وهي عبارة تحمل التناقض المتمثل في الجمع بين الاستبداد والعدل، فيُمكن أن يحمل كلامه على الشدة والحزم، فالاستبداد نقيض العدل، ولا يوجد مستبد وعادل في الوقت ذاته، فهما نقيضان لا يجتمعان في واقع الأمم أبدا. لذلك فالشعوب هي ضحية الاستبداد، وتلزمها الثورة على أمراضها قبل الثورة على مستبديها.
وما رُؤيَ مثل الطغيان منبتًا للرياء والتملق، فمتى وُجد الحاكم المستبد، أحيط بمن يتزلف إليه بالقول الفاسد، الذي يبارك الباطل ويشرعن الظلم، بدافع الخوف أو الطمع، وهو بدوره يشجعهم على ذلك، ويدني إليه منهم أكثرهم رياءً وتملقًا، حتى يغدو التملق هو العملة المتداولة بين الجماهير، وبمثل هذه الأمراض تولى الخليفة العباسي المنتصر بالله، بعد أن تآمر المنتصر بالله العباسي على قتل أبيه المتوكل، فصعد إلى سدة الحكم بدلا من أن يُزج به في السجن. ومع وجود المرائين والمتملقين الذين يستفيدون من شرعنة باطل المستبدين، تحدث مشكلة قيمية واجتماعية أخرى، إذ تنقلب الحقائق في أذهان الناس، فتصير الطاعة العمياء، وترك المطالبة بالحقوق، والسكوت عن الظلم، والنفاق، والمداهنة، تصير كلها من ضروب الحكمة والفطنة والذكاء، بينما أهل الإنصاف والتواقون إلى الحرية والكرامة والعدالة يُنعتون بالتمرد والحماقة والتهور والفساد.
ومع الاستبداد يكثر القلق والخوف بسبب فقدان الأمن النفسي والغذائي، فمن ثم تطغى الـ(أنا)، ويصبح الشعار السائد «أنا، ومن بعدي الطوفان»، فيقل العطاء والبذل، ويكثر الشح والبخل، والإمساك عن العمل من أجل الآخرين، وهي أمراض لها تأثيرها العام، بلا شك على نهوض المجتمع، لأن المجد منوط بالبذل في سبيل المجموع، والتخلص من أسر العمل المطلق لأجل المنفعة الخاصة، والتجربة الألمانية خير مثال على ذلك، فبعد الدمار الذي لحق بألمانيا، مع خسارتها الفادحة في الحرب العالمية الثانية، لم يكن في الشوارع سوى النساء والشيوخ والأطفال، واستطاعوا أن يبنوا ألمانيا من جديد في غضون سنوات، وعبَّرت الشعارات التي كتبت على الجدران عن الطاقة الإيجابية التي تحلى بها المجتمع، وروح البذل والعمل من أجل الصالح العام، حيث انتشرت على الجدران عبارة «لا تنتظر حقك، إفعل ما تستطيع، إزرع الأمل قبل القمح».
الاستبداد كذلك يصبغ كل عناصر الحكومة بالصبغة ذاتها، حتى يغدو الاستبداد والتنمر سمة لكل من تولى أمرًا، أو حاز سلطة، تراه يمارس الاستبداد مع من هو أضعف وأفقر وأقل منه، فيكون الاستبداد صبغة عامة، من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفراش، إلى كنّاس الشوارع، كما يعبر الكواكبي في «طبائع الاستبداد»، حتى إنك لترى ذلك الاستبداد في مديري الشركات، وأساتذة الجامعات والمدرسين، وضباط الشرطة وعساكرها، بل حتى في رب الأسرة مع زوجته وأبنائه.
ومع الاستبداد يكون خمول الفكر وكسل الجوارح، لأن الاستبداد يسد أفق الطموحات، خاصة أن المستبد لا يعبأ بمعيار (القوي الأمين)، بل يدني من يمرر له استبداده، ويبعد الكفاءات والثقات، طالما أنه لا يستطيع توظيفهم لخدمة سياساته وتوجهاته، فمن ثَم لا يجد كثير من الناس في أنفسهم رغبة في الإنتاج، ولا قدرة على الإبداع، وذلك من تأثير طغيان الحكام، يسلبهم تلك الفضائل، كما قال الشاعر محمد إقبال:
يسلب السروَ جميل الميلِ …. ويردّ الصقر مثل الحجلِ
وإن الاستبداد ليوجِد سوء الظن بين الناس، ويخلق العداوة بينهم، ويجعل الفرد يعيش في قلق دائم ومأسورا بنظرية المؤامرة، لِما يرى من فساد الراعي وبعض أو كثير من رعيته، فينشأ لديه الطمع، وتضيع من نفسه القناعة، لأنه يرى الأموال مكدسة في أيدي ثلة من أعوان المستبد، ويحقد على الأغنياء، لأنه ارتبط في ذهنه أن الثراء مرادف للفساد، ونتيجة له، بل يؤول في النهاية إلى كراهية وطنه ويفقد انتماءه له. ومع الاستبداد دائما علماء السلطان الذين يخلعون مسؤوليتهم الدينية على أعتاب القصور، ويُفصّلون الفتاوى للحاكم بِليّ أعناق النصوص وما أكثرهم، وينتج عن ذلك شيوع منطق التعميم لدى الجماهير، فيغدو في أذهانهم أن كل عالم أو داعية يتقاضى راتبه من الدولة إنما هو مأجور ومرتزق وبائع للدين بالدنيا، لذلك يُحكى أن أحد الظرفاء، أرسل إلى لجنة الفتوى في أحد البلدان التي أجريت فيها الانتخابات، يستفتي في أمر رجل حلف بالطلاق، أن الانتخابات أجريت في أحد الأعوام كانت مزورة، فهل تطلق امرأته أم لا، أراد من ذلك أن يحرجهم ويثبت بصمتهم عن الجواب أنهم علماء سلطة، لأنه تأصل في حسّه أن الجهات الدينية الرسمية لابد أن تكون ممالئة للحاكم المستبد.
لذا لا مناص من القول إن الجماهير بحاجة إلى ثورة على الأمراض الاجتماعية والقيم السلبية التي هي سلاح الطغاة والمستبدين، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
المصدر : القدس العربي
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة