متخصّصة في مناهج تعليم اللغة العربية، كاتبة في مجال التربية | باريس
كلمة صدق في حقّ معاوية
كتب بواسطة نجيبة بلحاج ونيسي
التاريخ:
فى : تراجم وسِيَر
2165 مشاهدة
استوقفتني ، أثناء بعض مطالعاتي، هذه المقولة الشّائعة: " الأكل مع معاوية أدسم، و الصّلاة خلف عليّ أقوم، و الوقوف على الرّبوة أسلم"._ رضي الله عنهما_.
و وجدتني أستعرض ما ثبتَ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في حقّ هذا الصّحابيّ الجليل من جهة، وما قيل عنه من سخافات عن جهل أو بفعل الدّسّ و بغرض بثّ الفتنة بين المسلمين من جهة أخرى. فالباطل قديماً و حديثاً لكي يسود، يسعى إلى تغييب الحقّ بتطويع الإعلام تطويعاً لا مراعاة فيه للخلق الرّاقي و لا للعدل، وبإضعاف عمليّة التّعليم فيسهل التّشويه وبثّ الفرقة.
و من أمثلة التّضليل الحديث ما يُعمَد إليه من خلط بين الإسلام و الإرهاب اليوم..
معاوية بين افتراء المفترين و إنصاف الثّقات
نالت شخصيّة معاوية من الافتراء ما لم ينله أحدٌ، حتّى أنّ كثيرا من المسلمين ذاتهم سبقوا الباطل في تصديق ما روّج عنه، و رسخت في أذهانهم صورة لمعاوية تظهره طالبَ سلطة و جاه؟!.. . و لم يتكبّدوا عناء البحث العلميّ الدّقيق لتمحيص الأقوال المشتبهة ، بل التهموها دون هضم على أنّها هي الأمرُ الواقع ؛ ولم ينصفوا الرّجل .. و غابت عنهم تزكية الرّسول عليه الصّلاة و السّلام له في مناسبات متعدّدة، عليه رضوان اللّه، وغاب عنهم أنّ الأمّة مجتمعة على تعديل الصّحابة، و من اجتهد منهم و أصاب فله أجران، ومن اجتهد منهم و أخطأ فله أجر، فليس بعد رسول اللّه معصوم؛ و البشر، قد يخطئ بعضهم في أمور و يصيب في أخرى، و كذلك الآخرون . فليس لنا أن نتجرّأ و نمسّ نوايا الصّحابة بسوء، بهتانا ..!
.. يا ليت القوم اليوم، يأكلون من طبق معاوية عليه رضوان اللّه ! و ينصرون الحقّ و المبادئ كما نصرها معاوية ..!
يكفينا استدلالاً لمعرفة حقيقة شخصيّة معاوية رضي اللّه عنه ما وردَ فيه من أقوال للرّسول عليه الصّلاة و السّلام، في أحاديث صحيحة و في كتب معتبرة لدى علماء الحديث.
فهو الّذي دعا له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قائلاً : " اللّهمّ علّم معاوية الكتاب و الحساب و قه العذاب. " ( البخاري).
و كذلك "اللّهمّ اجعله هاديا و اهد به." (أحمد).. وهو الّذي دخل ذات يوم على رسول اللّه وهو عند أخته أمّ حبيبة و على أذنه قلم ، فسأله رسول اللّه عليه الصّلاة و السّلام : " ما هذا القلم على أذنك يا معاوية ؟ فقال : " قلم أعددته للّه و رسوله ." فقال عليه الصّلاة و السّلام : " جزاك اللّه عن نبيّك خيراً ، و اللّه ما استكتبتك إلّا بوحي " (أحمد) ..
معاوية هو الّذي تنبّأ له الرّسول بأنّ اللّه سيقمّصه قميص الخلافة و سيُبتلَى بها و ستكون فتن في عهده و دعا له " اللّهمّ اهده بالهدي و جنّبه الرّدى ، و اغفر له في الآخرة و الأولى ".(الطّبراني عن عائشة و رواته ثقات) و قد بشّره بمغفرة اللّه له ..
ليس لنا أن نشكّك في نوايا معاوية الصّحابيّ الثّقة العدل
فمعاوية إن كان قد أخطأ الاجتهاد فقد قصد الحقّ و الذّود عنه .. و حتّى خلافه مع عليّ بعد مقتل عثمان عليه رضوان اللّه، لم يكن بسبب السّلطة و لا لحساب الدّنيا. إنّما كان لكلّ منهما رأي مختلف عن رأي الآخر يرى فيه نصرة دين اللّه . وهذا مثبت عند العلماء الّذين بحثوا في هذه الحقبة من التّاريخ و حقّقوا أخبارها بالرّجوع إلى آليّات الجرح و التّعديل و علم الرّجال من علوم الحديث ،و لم يكتفوا بمطالعة كتب التّاريخ المملوءة تشويها بما سجّلته الأصابع الّتي ذاقت هزيمة خيبر، الّتي تصنّعت الأقوال والمواقف لبثّ الفتنة بين أبي ذرّ الزّاهد المجاهد و بين معاوية الملك المجاهد و الّذين جمعهما اللّه في نفس المكان ليقوم كلّ واحد منهما بدوره المناط بعهدته، الأوّل الّذي كان "على زهد عيسى عليه السّلام"، تفرّغ لإخراج الدّنيا من قلوب النّاس حتّى لا يطغوا؛ و الثّاني الّذي كان "على منهج سليمان عليه السّلام"، تفرّغ لتحمّل جسام الأمور حتّى لا تضيع الدّولة و هيبتها.
هذه الأصابع أتقنت دراسة خصوصيّة و طبيعة و خلق كلّ من الشّخصيّتين واستخدمت خبثها لتفرّق الصّفوف.. وهي تعلم حقّ العلم أنّ قوّة الإسلام في سعته الّتي تجمع بين كلّ النّماذج و الطّاقات لتؤدّي رسالتها على الأرض؛ فنحت منحى الدّسّ لتسود..
تلك هي سياسة الباطل منذ بداية البعثة و هي تبلغ ذروتها في عصرنا هذا ..
كذلك لم يولّ ابنه الخلافة إلّا ليمنع الخلاف، و يقطع دابر الفتنة و يجمع الكلمة في هذه المرحلة الحرجة الّتي تعيشها الأمّة، مع نظره لكثرة المطالبين بها. و قد أقرّه على ذلك كبار الصّحابة و سادة القوم. وقد قال الحافظ عبد الغنيّ المقدسيّ:" خلافته صحيحة و قد بايعه ستّون من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم منهم ابن عمر"،
فعن نافع قال :" لمّا خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه و ولده فقال ." إنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: ( ينصب لكلّ غادر لواء يوم القيامة ) و إنّا قد بايعنا هذا الرّجل على بيع اللّه و رسوله، و إنّي لا أعلم عذرا أعظم من أن يبايع رجل على بيع اللّه و رسوله، ثمّ ينصب له القتال، و إنّي لا أعلم أحدا منكم خلعه و لا بايع في هذا الأمر إلّا كانت الفيصل بيني و بينه". ( البخاري )
من استأثر بالتّأريخ لهذه الفترة الحرجة من تاريخ الأمّة؟
نأى الثّقات المعاصرون لهذه الفترة التّاريخيّة، المعتبرون من صحابة و غيرهم، بأنفسهم على أن يخوضوا في الحديث عن خلاف علي و معاوية و ما يعرف بالفتنة الكبرى ، عملا بحديث أبي هريرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:" ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، و القائم فيها خير من الماشي، و الماشي فيها خير من السّاعي، من تشرّف لها تستشرفه، فمن وجد منها ملجأ أو معاذا فليعذ به." ( متّفق عليه)
فنتج عن هذا أن استأثر مثيرو الفتن بالتّأريخ لهذه الفترة من تاريخ الأمّة . ومن فضل اللّه أن سخّر اللّه الطّبري في تاريخه، و غيره من رواة الأثر، لتسجيل الأخبار بأسانيدها. و أقرّ الطّبري في مقدّمة تاريخه أنّ تسجيله هذا لم يخضع لتمحيص. وهذا الإقرارالهامّ يستوجب ألّا تعتمد هذه الأخبار إلّا بعد تمحيص أسانيدها بالرّجوع إلى علم الرّجال و الجرح و التّعديل لمن يرغب في تمييز الصّحيح من المفترى به.. و مع الأسف الشّديد لم يتمّ هذا التّحرّي إلّا بعد زمن متأخّر. ومن فضل اللّه أيضا أن سخّر من الباحثين المتأخّرين من اهتمّوا بغربلة الأخبار و ضبط الصّحيح منها إنصافا للحقّ وبحثا عن الحقيقة التّاريخيّة.. و هؤلاء، هم الّذين كشفوا اعتمادا على وسائل البحث العلميّ المعتبرة حديثا، الحقائق المخفيّة حتّى على أتباع هذا الدّين..
حمل معاوية الدّنيا و نصر الأمة و لم يطأطئ رأسه لباطل
سئل المعافى بن عمران أيّهما أفضل : معاوية بن أبي سفيان أو عمر بن عبد العزيز ؟ فغضب و قال : " أتجعل رجلاً من الصّحابة مثل رجل من التّابعين ؟! معاوية صاحبه و كاتبه و أمينُه على وحي اللّه !! ( الآجري)..
و قال قبيضة بن جابر في معاوية عليه رضوان اللّه " ما رأيت أحدا أعظم حلماً ، و لا أكثر سؤدداً، و لا أبعد أناةً، و لا ألين مخرجاً، و لا أرحب باعاً بالمعروف من معاوية ".. (الذّهبي)
فأين ساسة اليوم ، في بلادنا ، و بمختلف مشاربهم الفكريّة ، من هذا الصّحابيّ الجليل ؟! .. آتاهم اللّه السّلطة فهرولوا إليها دون رويّة، وسمحوا لأنفسهم أن يضعوا المبادئ على الطّبق ! .. معاوية لم يضع أبدا المبادئ على الطّبق ..!
زهد معاوية في عزّ السّلطة الّتي نشأ فيها ليرتقي إلى علوّ التّربية النّبويّة
معاوية رضي اللّه عنه ابن سيّد قريش أبي سفيان بن عيينة ذي السّلطة و الجاه ، و هو ابن هند بنت عتبة لا تقلّ نسباً و لا جاهاً عن زوجها ؛ تربّى في عزّ السّلطة، و لم يسع أبدا إليها على حساب دينه و طاعة ربّه .. بل ترك العزّ الّذي ترعرع فيه ليتفرّغ لتطهير نفسه من رواسب ما كان عليه و ينتقل بها إلى علوّ التّربية النّبويّة الرّشيدة . فترك الخمرَ و الحرير و محبّة المديح و الثّناء . فبعد أن كان أسعد النّاس إذا وقفوا له إجلالاً ، أصبح يأمر بعدم الوقوف له قائلاً :" لقد سمعت رسولَ اللّه يقول من أحبّ أن يتمثّل له النّاس قياما فليتبوّأ مقعده من النّار" (البخاري)..
و كان عليه رضوان اللّه من أشدّ النّاس حرصاً على أن يكون من الفرقة النّاجية القائمة على الحقّ بأمر اللّه.. و يسعده أن يكون أميرها كما بشّره رسول اللّه بذلك.. حمل معاوية الدّنيا، و لم تمنعه أبدا من القيام بواجبه، و لم تسقطه في التّنصّل عن مبادئ الحقّ و لم يرتض يوما الخضوع للمستعمر وبيع بلده ؛ ولم يجنح إلى ليونة سلبيّة مضيّعة للحقّ و العدل، مقابل مصالح شخصيّة آنيّة ؛ و لم ينزلق نحو الأسفل باتّخاذ القرارات و الخيارات المذلّة للأمّة.
على العكس من ذلك تماماً ، ما فتئ معاوية يوطّن نفسه على طيّ صفحة الماضي ليخوض غمار الجهاد غير مكترث بما يمكن أن يصيبه من متاعب. و لم يطأطئ رأسه لباطل ، و لم يتمرّغ و لم يتمسّح خوفاً أو طمعاً في مستعل مهيمن .. كما هو حال الكثير من السّياسيّين اليوم .. لم يأخذ من الدّنيا على حساب دينه .. تحمّل ركوب المخاطر، و توالت الانتصارات على يديه .. فهو أوّل من خاض البحر نصرة لما آمن به من حقّ .. و تنبّأ له بذلك رسول اللّه من قبل أن يخوضه بعشرين سنة في حديث لأمّ حرام : " ناس من أمّتي عرضوا عليّ غزاة في سبيل اللّه يركبون ثبج البحر ملوكا على الأسرّة " ( البخاري). و طلبت أمّ حرام من الرّسول أن يدعو لها لتكون مع هؤلاء المجاهدين فدعا لها، و بشّرها أنّها ستكون منهم .. و هذا ما تمّ فعلا ..
أين نحن، حكّاما و محكومين، من هذا الصّحابيّ الجليل!.. أين نحن من مواقفه و أخلاقه ! .. أين نحن من تزكية الرّسول له ! ..
" ما أهون الخلق على اللّه إذا تركوا أمر اللّه فصاروا إلى ما هُم عليه".
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة