رسول الحب..
كتب بواسطة إيمان مغازي الشرقاوي
التاريخ:
فى : في رحاب الشريعة
1033 مشاهدة
إذا بحثتَ عن الحب الصادق وجدتَه في أعلى صوره متجسداً فيه، يظهر في مَنطقه وفي فعاله، وفي معاشرته وأخلاقه، تُحسه في صمته وكلامه، وحركاته وسكونه، ينشر الحب وينثره على مَن حوله، فيواسي الحزين ليذهب حزنه، ويداعب الصغير ليفرح قلبه، ويغيث الملهوف لينفس كربه، ويعفو عن المسيء لينهض من عثرته.
تراه محباً مع الزوج والولد والأهل والأرحام، مع الأصحاب والجيران، مع الأيتام والأرامل والفقراء والمساكين، مع الطير والحيوان، بل ومع الشجر والنبات والجماد!
فإذا أردتَ أن تُحِب أو تُحَب فهو دليلك إلى ذلك، فرسالته رسالة الحب والرحمة، وتحيته تحية السلام والبركة، وأصحابه أحبابه، يدعو بحب، وينصح بحب، ويعطي بحب، ويمنع بحب، ويكافئ بحب ويعاقب بحب، حتى يظن الجالس معه أنه المحبوب لديه دون الناس جميعاً، لِما يرى من نظراته المُحِبة وابتساماته الدائمة، ولِين قوله وحسن معشره؛ فهو رسول الحب، الداعي إليه، الحبيب إلى ربه عز وجل، المحِب لأمته، المحبوب من جميع المؤمنين إلى يوم القيامة؛ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
لقد منحنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من حبه الخالد، وعلمنا الحب الحقيقي الذي لا تُذهبه الأيام أو تمضي به السنون، ودعانا إليه، حتى نبادله حباً بحب، فقال لنا صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» (رواه البخاري)، ذلك الحب الذي يُستمد من حب الله عز وجل ومن رسالته الخالدة، كما قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ) (البرة: 165)، فهو حب لا يأتي إلا بخير.
إن الناظر في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم يجد فيه الإنسان الكامل من جميع النواحي، ولا عجب في ذلك، فقد أدبه ربه عز وجل، وجعله النبي الخاتم المرسَل إلى الناس كافة على مختلف الطبقات والأجناس واللغات، فكان يحب الخير والهداية لهم جميعاً، ويحزن حزناً شديداً على مَن أعرض منهم، حتى قال له الله تعالى: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (الشعراء: 3).
وقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته على بناء قواعد الحب والتوادّ في نفوس المؤمنين على المستوى الخاص والعام، ذلك الحب الذي يقوِّيه الصدق والإيثار، وينميه العدل والإحسان، مما جعلهم كالجسد الواحد كما وصفهم في قوله: «مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (رواه مسلم).
وقد سلك الرسول صلى الله عليه وسلم في سبيل الوصول بنا إلى التواد والمحبة طريق القدوة الصالحة يقدمها لنا من نفسه، ولو كان إظهار هذا الحب مع جبل أشَم كجبل «أُحُد» إذ يقول عنه: «هذا جبل يحبنا ونحبه» (رواه البخاري)، أو مع أرضِ موطنه الذي نشأ فيه كما قال لمكَّةَ: «ما أطيبك من بلد وأحبك إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك» (صحيح الترمذي)، فما ظننا كيف كان حبه لأصحابه ولأزواجه وأهل بيته ولكل المؤمنين والمؤمنات؟!
لذا، فلا عجب أن كان من أهداف رسالته المباركة إرساء القواعد التي تجعل من الفرد إنساناً سوياً حتى في مشاعره، ومن الأسرة المسلمة أسرة سعيدة متحابة، ومن مجتمعاتنا مجتمعات متآلفة متوادّة، قد ربط حب الله ورسوله بين قلوبها فتحابت به فيما بينها فكان ذلك الحب الطيب سبيلاً لكل خير.
الرسول المُحِب صلى الله عليه وسلم:
حبه لأصحابه: كان الرسول صلى الله عليه وسلم ودوداً مع أصحابه، يحبهم حباً كبيراً، ولا يرضى أن يؤذيهم أحد ولو بكلمة، فيقول: «لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم، ولا نصيفه» (رواه مسلم)، يعلمهم بحُبٍّ كالأب الشفيق الحاني ويقول لهم: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد، أعلمكم» (صحيح أبي داود)، يشاركهم أحوالهم ولا ينعزل عنهم وهو أعبدهم وأتقاهم لله، ويصف ذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه ويقول: «إنا والله قد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر، وكان يعود مرضانا ويتبع جنائزنا ويغزو معنا ويواسينا بالقليل والكثير» (رواه أحمد).
حبه لأزواجه: وقد أحب الرسول صلى الله عليه وسلم زوجاته رضوان الله عليهن، فكان نعم الزوج المحب، وحين سئل: من أحب الناس إليك؟ قال: «عائشة» (رواه الترمذي)، ولم ينسِه مرور الوقت ومسؤولياته الكثيرة أن يعلمنا أن الحب الصادق للزوجة يستمر أيضاً بعد موتها ويُترجَم وفاء لها وإكراماً لأهلها وصديقاتها، وقد فعل ذلك مع زوجه خديجة رضي الله عنها، حيث كان يقول: «إني رزقت حبها» (صحيح ابن حبان)، وتذكر عائشة رضي الله عنها أنه إذا ذبح الشاة يقول: «أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة» (رواه مسلم)، فيقدم بذلك القدوة للرجال في حفظ الود للزوجة في حياتها وبعد مماتها، ويقول لهم: «لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر» (رواه مسلم)، ولا يفرك: أي لا يبغض، وفي المقابل؛ فإنه صلى الله عليه وسلم يبشر الزوجات المحبات لأزواجهن فيقول: «ونساؤكم من أهل الجنة الودود الولود العؤود على زوجها..» (السلسلة الصحيحة).
حبه لأولاده وأحفاده: وتصف عائشة رضي الله عنها ذلك الحب المتبادَل بين النبي صلى الله عليه وسلم وابنته فاطمة رضي الله عنها، فتقول: «كانت إذا دخلت عليه قام إليها، فأخذ بيدها وقبَّلها وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها قامت إليه، فأخذت بيده فقبلته وأجلسته في مجلسها» (صحيح أبي داود)، وكان يقول عن الحسن والحسين: «هذان ابناي وابنا ابنتي، اللهم إني أحبهما فأحبهما وأحب من يحبهما» (رواه الترمذي).
حبه لأمته: وأحب أمته فخبأ لها شفاعته، كما قال: «كل نبي دعوة مستجابة يدعو بها فيستجاب له، فيؤتاها، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة» (رواه مسلم).
دعوة.. وحب:
ولم يخلُ توجيه النبي صلى الله عليه وسلم من الترغيب والتحذير، والأمر والنهي في سبيل تحقيق المحبة بين الناس ونشرها، والتقليل من الشقاق والتنافر بين القلوب، وذلك بالأخذ بالوسائل المباحة لتحقيق ذلك، فالأسرة المتباغضة التي لا تعبر عن مشاعر الحب بالقول أو بالفعل؛ تنقصها بعض السكينة، والمجتمعات التي تسودها الكراهية والبغضاء بين أفرادها أو طبقاتها لن تنتج سوى المزيد من الحقد والعداوة والشحناء بينهم، بينما لو اتبعوا توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم الداعي إلى التحاب لَتغير حالها.
لذا، فقد نهى عن كل ما يؤدي إلى القطيعة والكراهية فقال: «لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخواناً» (رواه مسلم).
ودعانا إلى الأخذ بأسباب المحبة، فقال: «لا يؤمن أحدكم، حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (رواه البخاري)، وبيَّن أن ذلك من الإيمان فقال: «لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه من الخير» (صحيح ابن حبان).
وذكر أن المحبة طريقها سهل وقد تحصل بهدية بسيطة يتولد بها الحب بين المتهاديين، فقال: «تهادوا تحابوا» (صحيح الجامع).
وعلمنا جملة من الأعمال الطيبة والأخلاق الفاضلة التي تورث المحبة، ومن ذلك قوله: «أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو يقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد (يعني مسجد المدينة) شهراً، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه، ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام» (رواه الطبراني، وصححه الألباني).
وحثنا على إفشاء السلام فقال: «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» (رواه مسلم)، وأن نظهر مشاعرنا تجاه مَن نحبهم في الله، فقال: «إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه» (صحيح أبي داود).
ودعانا إلى الحب الخالد، حب الله ورسوله، فهو أصل كل حب، حيث يثمر طاعات دائمة، وأخلاقاً طيبة، وقلوباً متآلفة، وحباً للخير وأهله، فقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار» (رواه البخاري)؛ لذا فإن علينا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته، فهذا هو الدليل على حبنا لله تعالى القائل سبحانه: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (آل عمران: 31).
المصدر : مجلة المجتمع
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة