كاتب في القضايا الفكرية، محاضر ومقدّم دورات في التربية، له مؤلفات ومقالات منشورة.
https://www.facebook.com/tahayassen1980
في هذا العالمِ الذي اكتسحتْ فيه الآلةُ كلَّ شيء، وتفوقَ العالم الافتراضي على العالم الواقعي، وأصبح الإنسانُ يجلس على الشاشة أكثرَ مما يجلس مع أهلِه، فباتَ يشعر بالوحدة والوحشة.
و لأن الشيءَ يأخذ من الشيء، والجليس من جليسه، فقد أصابَت الإنسان عدوى الآلة، فلم يَعُد يشعر كثيراً بمن حولَه، ولم يعد يهتم بآلام المسلمين وهمومهم، فقسا قلبُه واستوحشت روحُه بين جنبيه، هذا فوق ما يمرُّ بالأمَّة من وباءٍ لم يُعرَف له دواء حتى الآن، بعد أن حصد أرواحَ الملايين، غير المشكلات التي عصفتْ بالأمَّة من تفقير الشعوب، وتسلُّط الطواغيت عليها، ومن تطبيع الرويبضات مع الصهاينة في مشهدٍ غاية في الذلِّ والمَهانة.
في هذا الزمنِ الغريب شديدِ القسوة يُقبلُ رمضان والعالم الإسلامي يئنُّ كاهلُه بمصائب جمَّة تُتعبُه و تُعيقُه عن السير، كان لا بد من البحث عمَّا يُشدُّ الأزْر، ويوقظ الهمَّة،وينهض بصاحبه لاستقبال الفُرَص الثمينة التي تمر به.
ولعلّ من فرائد الفرص التي تُذكي حرارةَ الوجدان، وتُلهب عاطفة الحبِّ في القلب، وتهدي الحيران إلى سبيل الرشد، هي الهدية التي يحظى بها الإنسان مرةً كلّ عام، وتأتيه على طبقٍ من ذهب، ألا وهي رمضان.
زمنٌ خلّدَ الله عزَّ وجلّ اسمَه في القرآن الكريم في قوله:
﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان ﴾.
زمنٌ تتعلم منه البشرية كيف تنفض عن نفسها غبار اليأس والخذلان،وكيف تحتفي به احتفاء من وضع يده على كنز.
ولعلّ من أهم علامات هذا الاحتفاء:
1- ملازمةُ باب التوبة،إذ إنَّ من يريد أن ينهض و يمشي لا بد أن يتحرر من سجن المعاصي التي اعتادها، وأن يتخلَّصَ من أعباء الذنوب التي يحملها.
2- الاعتكاف على قراءة القرآن؛ لأن رمضان شهرٌ أُنزل فيه القرآن، ولعلَّ من بركته أن يفتح للقارئ فتوح التَّدبر والتَّأمُّل، فتتعلق نفسه بكتاب ربِّه، وربما وردت عليه واردات، فتحتْ للقارئ أقفالاً نفسيّة، ماكانت لتُفتَح في غير رمضان.
3- قيمةُ الأشياء تبرز بالقدرة على مقاومة الخصم وغلبته، وإن أعداء رمضان يتربَّصون به وبالصائمين، فيتسابقون في ماراثون الفوازير و المسلسلات الساقطة التي تحارب الفضيلة والأخلاق ليبثُّوها في رمضان، ويفوِّتوا على النّاس الفرصةَ التي كانوا ينتظرونها منذ عام.
4- رصُّ الصَّف و نبذُ الفُرقة والتنازع بين المسلمين، فهذا هو سرُّ القوة التي يُجابه بها الأعداء، ولا عبرة بالجهود الفردية فهي لا تقوى على المجابهة بخلاف الجهود الجماعية، وهذا ما بينه الحكيم في قوله جلّ وعلا: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾.
5- محاذرةُ تحويل هذا الشهر الجميل الى موسم دنيوي لشراء الجديد و المنوَّع من الأطعمة و الألبسة، وارتياد السّوق، فتضيع أنفَسُ أوقات العمر في تجارة غير رابحة.
6- مشاركةُ أفراد العائلة باستقبال هذه الهدية، وتعميم الفرحة بها، وتهيئة الجوِّ الأُسْري من خلال الترغيب والتشجيع على الطاعة، ووضع خطط وبرامج المشاركة مع جميع أفراد الأسرة ليعمَّ الخير و تترسخ قيمة هذا الشَّهر في النُّفوس.
7- الإكثار من الدُّعاء، الذي هو العبادة، و إنَّ للدعاء سرّاً من أسرار النَّفس يحمل لها القوة والطمأنينة، فالنَّفس التي تتأثر بالدعاء بين يدي ربِّها؛ فتسأل وتستغفر وتشكو وتُلِّح على ربّها،إنما تعيش لحظات ذلك السِّر.
بصدق المستضيف وحبِّه للضيف، و بحفاوة هذه الهدية، وباقتناص المعاني التي ترسخها إننا نصافح رمضان، فتتحقق لدينا بُشرياته في الرحمة والمغفرة والعتق من النار، ويُكتب لنا أجرٌ ما كنّا لنحلم بالقليل القليل منه، بوعد ربّ العزة القائل في الحديث القدسي: " كلّ عملِ ابن آدم له إِلا الصِيامَ، فإِنه لِي وأنا أجزِي بِهِ".(متفق عليه).
...................................................................................
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
كاتب في القضايا الفكرية، محاضر ومقدّم دورات في التربية، له مؤلفات ومقالات منشورة.
https://www.facebook.com/tahayassen1980
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن