التكريم الصادق بالاتّباع الكامل.
أيّها المسلمون! إنّ من بركات هذا الشهر الأغرّ، أن يقيم فيه المُسلمون في جميع أنحاء العالم الإسلاميّ، حفلات يُمجِّدون فيها نبيّهم صَلّى اللهُ عَليه وسَلّم، ويردِّدون سيرته الكريمة، فترتجّ أرجاء الشرق والغرب معلنة مولد الهدى والنور.
ما أحسنَ هذا وما أبهاه! وما أبهجَه وما أسماه! لولا أنّ المُسلمين اليوم اقتصروا على القول دون العمل، وعلى الصورة دون الحقيقة.
ما من حفل إلاّ ويوصف فيه صَلّى اللهُ عَليه وسَلّم أنّه نبي الهدى، فأين المُسلمون من نهج هداه؟ وما من موقفٍ إلاّ ويذكر فيه صَلّى اللهُ عَليه وسَلّم أنّه نبيّ النور، فأين المُسلمون من نور سناه؟
ألا تعجبون لأمّةٍ، تعرف داءها ودواءها، ثمّ هي تسترسل في أمراضها، وتئنّ في عللها وأسقامها؟! أليس من العجب البالغ أن تنطلق الألسنة بتمجيد هذا النبيّ الكريم، وتمعن الجوارح في مخالفته؟!
إنّ التكريم الصادق، ليس بالحفلات تقام، ولا بالجموع تزدحم، ولا بالأنوار تشعّ، ولا بالحلوى توزّع.. إنّما التكريم الصادق بالاتّباع الكامل.
أيّها المسلمون! إنّ ما جاء به صَلّى اللهُ عَليه وسَلّم، ليس برأي كآراء الناس، يخطئ ويصيب، ليس بمذهب فلسفي يعلو ويسفل.. إنّما هو وحيٌ إلهيّ، وشرعٌ سماويّ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه..
آمن بهذا المسلمون الأولون، فتركوا العقول البشريّة المَحدودة وراء، ونبذوا الأهواء النفسيّة وراء، وتمسكوا بأهدابه، وعضّوا عليه بالنواجذ: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [النور:51] .
ليس في الاتباع " لِمَ " و " كَيْفَ "؟ وليس في المُسلم الصادق أمام الأمر والنهي تلكُّؤ أو تردد.. بهذا قام الإسلام، وبهذا انتصر المُسلمون، وبفقده تقهقروا واستكانوا.
بعث النبيّ صَلّى اللهُ عَليه وسَلّم، عليَّ بن أبي طالب رضي اللهُ عنه، على رأس سريّة في غَزاة، ولمّا خرج يودّعه، قال له : (امشِ ولا تلتفِت، حتّى يفتح الله عليك)، فسار عليّ شيئاً ثمّ وقف، ولم يلتفت فقال: يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟.. الحديث. فلم ينس عليّ قول نبيّه صَلّى اللهُ عَليه وسَلّم، ولا تلتفت.. فأين المُسلمون اليوم، من هذا الاتّباع الجليل؟
يا أتباع هذا الرسول الكريم: إنّ أمتكم هذه، لا يصلح آخرها إلاّ بما صلح به أوّلها: إيمان صادق لا يعتريه شكّ، وإسلام كامل لا يشوبه هوى، واستسلام لحكم الله ورسوله صَلّى اللهُ عَليه وسَلّم، لا يخدشه تردّد أو فتور.. فإذا كان هذا وتحقّق، كان إسلامكم إسلاماً حقيقيّاً، وجاءكم النصر المُبين: {وَمَا النصرُ إلاّ مِن عِندِ الله..}، {وليَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُه، إنّ اللهَ لقَويٌّ عَزيز..}.
قد يتساءل المَرء في نفسه: كيف انتقل المُسلمون من الاتّباع الكامل، إلى الهوى المُطاع؟ وكيف انقلبوا من العزّة والقوّة، إلى الذلّة والضعف؟
إنّ هذا الانقلاب في حال المُسلمين، لم يكن فجأة، ولكنّه تدريجيّ بطيء، فلم يسترع أذهانَ الناس، إلاّ عند المُقارنة بين السلف والخلف.
وأقرّب هذا بأمثلة ثلاثة:
أولاً: مَثل الإسلام مثل الثوب السابغ الساتر، له عراً من أعلاه إلى أدناه.. فإذا حرص لابسه عليه، أبقى عراه وثيقة، ولم يسمح بحلّ واحدة منها، وإذا تساهل فحلّ منها عروة، مهد ذلك إلى حلّ العروة التي تليها، وما من عروة تحلّ، إلاّ ضعف التماسك فيما بعدها، فتتعرّض للانحلال، فتنحلّ وتنحلّ بانحلالها عرا الثوب كلّه، فينخلع منه لابسه في لحظة.
ثانياً: مثل الإسلام مثل البناء الفخم، قام على أساس متين، متراصّ الأجزاء، محكم البناء، قد يطول به الأمد، وتتوالى عليه الأعاصير والأمطار، فتُحرّك حجراً في أعلاه، فإذا حرص صاحب هذا البناء عليه، أسرع إلى ترميمه وتثبيته، وإذا تساهل هوى هذا الحجر، وبهوّيه ضعف تماسك الحجرين عن يمينه وشماله، وعرضهما ذلك للهويّ فإذا هويا تتابع الأمر، وأصبح ذلك الصرح المَشيد، أثراً بعد عين.
ثالثاً: مثل الإسلام مثل الدرج، والناس فيه بين صاعد وهابط، وهذا الدرج يؤدّي بالصاعد فيه إلى الأوج، وبالنازل فيه إلى الحضيض. فمن كان في أوجه، وسوّلت له نفسه الهبوط، فطاوعها في هبوط درجة، تعرّض لمُطاوعتها في الهبوط لدرجة ثانية وهكذا.. زاعماً في كلّ منها، أنّ الهبوط درجة واحدة، لا يؤثّر في الرفعة، فإذا هو بعد مدّة في الحضيض، بعد أن كان في الأوج الرفيع.
نخلص من هذه الأمثلة الثلاثة إلى ما يلي:
الإسلام أمر ونهي، والأمر نوعان: فرض وسنّة. والنهي قسمان: حرام ومكروه. فالمُسلم الكامل يحرص على السنّة حرصه على الفرض، لأنّ التهاون في السنة يؤدّي به إلى التهاون في الفريضة، ويفرُّ من المَكروه، فراره من الحرام، لأنّ التهاون في المَكروه يجرّ إلى التهاون في الحرام، وارتكاب الصغيرة يسوق إلى اقتراف الكبيرة.
الإسلام كلّ لا يتجزأ، وليس في منطق المُسلم الكامل، أن يمتثل أمراً، ويخالف آخر، وإلاّ كان كالذين قال الله فيهم:
{.. أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ..} [البقرة:85].
المُسلم الكامل لا يقول: هذه سنّة يحلّ تركها، وهذا مكروه على التنزيه، لا يضرّ فعله، المُسلم الكامل لا يقول ـ مثلاً ـ: إنّ اللحية سنّة، يجوز تركها، والنظرة الحرام صغيرة، لا يضرّ إطلاقها، وخاتم الذهب في يد الرجل يسير، يُتغاضى عنه، والأمر الفلانيّ مستحبّ فلا بأس بتركه.. لا، من قال هذا؛ فقد حلّ من ثوب إسلامه عروة، وعرض عراه إلى الانحلال.
من قال هذا؛ رضي بهدم حجر من صرح إسلامه، وعرّضه للخراب والدمار، من قال هذا؛ نزل من أوج إسلامه درجة، ومنها إلى أخواتها، وانحدر بعدها إلى الحضيض.
ومن هنا أصيب المُسلمون في دينهم، ووصلوا إلى ما نرى من تضييع وضياع.
أيّها المُسلمون! هذه حقيقة لا شكّ فيها، وهذا واقع المُسلمين فلا تماروا فيه.
فهل لكم أن نعود إلى مجد الإسلام الأوّل، وعزّة الإسلام الأولى، ونَصدُقَ في إحياء ذكرى الرسول الكريم صَلّى اللهُ عَليه وسَلّم؟
إن قلتم: نعم، فاعزموا من ساعتكم هذه على التحقّق بالإسلام في أنفسكم وأهليكم، وكونوا دعاة الإسلام الصادقين. إذا فعلتم ذلك، أشرقت شمس الإسلام في العالم من جديد، وانمحت الظلمات، وانقشعت الجهالات، وعاد الإسلام غضّاً كما بدأ.
أيّها المُسلمون! أتدرون كيف تفشّت فينا دعايات الغرب، وضلالات الغرب؟ والمَبادئ الدخيلة من ها هنا وها هنا؟
منع المُسلمون الزكاة التي هي فريضة، والصدقات التي هي نافلة، والمُواساة التي هي فضيلة، والإيثار الذي هو مكرمة.. فجاع الفقير، وجهد العامل، وهلك المَريض..
أضاع المُسلمون أخوّة الإسلام، وقطعوا الأرحام، وعاش المُسلم غريباً بين إخوانه المُسلمين، فضعفت روابط الأخوّة الإسلاميّة فيما بينهم..
قعد المُسلمون عن الجهاد، وتركوا الاستعداد، وغفلوا عن قول ربّهم عزّ وجلّ: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ..} [الأنفال:60]. فطمع فيهم العدوّ، واستلب ديارهم وأموالهم، واستعبد رجالهم وأحرارهم، وفرّقهم أمماً.
انحطّ المُسلمون في أخلاقهم، وانخلعوا عن مكارم دينهم، وتركوا الصلاة الناهية عن الفحشاء والمُنكر، وأساؤوا في معاملاتهم، فرآهم الرائي على ذلك مع دعواهم الإسلام، فطعن في الدين، ونشأت فكرة الإلحاد، ووجد الإلحاد هوىً في النفوس المَريضة، المُتطلّعة إلى الانطلاق من قيود الدين وحدوده، فانتشر وشاع.
وطريق النجاة أن نعود إلى رحاب الإسلام الأوّل، فإذا عدنا كنّا مسلمين صادقين، وأحيينا ذكرى نبيّنا صَلّى اللهُ عَليه وسَلّم، وكنّا دعاة العالم إلى الإسلام، لكن بالأفعال لا بالأقوال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف:2ــ3]. فإلى الإسلام، والعمل به أيُّها المُسلمون.!
المصدر : فضيلة الشيخ أحمد عزّ الدين البيانوني رحمه الله تعالى وغفر له
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة