باحث في مؤسسة القدس الدولية، متخصص في التاريخ الإسلامي، كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكترونية، عضو رابطة أدباء الشام، ومسؤول لجنة الأقصى وفلسطين في جمعية الاتحاد الإسلامي.
معراجان في اسطنبول.. عن المدن والناس والتاريخ وأشياء أخرى (1)
كتبْت هذه الأفكار منذ نحو خمس سنوات، لقد كانت أشتاتًا مبعثرة وأفكارًا قصرت عن أن تكون مادة مقالة، وها أنا أعود إليها بعد تلك السنوات، وقد اختلفت النظرة ومعيار الرؤية بعض الشيء، ولعب الوقت في الحالَيْن لعبته، ففي المعراج الأول، سجلت فيه انطباعاتٍ بكر.. وفي المعراج الثاني، كان الوقت أكثر اتساعًا، وفسحة التأمّل على الرغم من مشاغل العمل والالتزامات أعطت صورة أكثر دقّة وشموليّة، لامست تفاصيل الحياة وأحوال البشر في هذه المدينة العملاقة.
هي صورٌ وخواطر - أستعير الاسم من شيخنا الجليل علي الطنطاوي - رحمه الله تعالى -، مبعثرة عن زائر عربي إلى اسطنبول، لم تدفعه أحوال بلده حينها إلى الإقامة فيها، فنظر إليها نظرة السائح الهائم بالحضارة والتاريخ، فهل تغيّرت بعد تلك السنوات نظرتي، وقد أتيت إلى اسطنبول لأبحث عن أمل جديد، وأستكمل ما بدأته في بلدي، فهل تبدّل الموقع، وانقلبت الصورة، بين نظرة الزائر المتعجّل، وبين نظرة القادم الباحث عن موئل جديد، وفي الحالَين ليست اسطنبول ما أكتبه عنها، بقدر ما أكتب عن نفسي فيها، وعن نظرتي إليها، وها هي أمامكم ولكم الحكم، وإليكم الأمر.
- المعراج الأوّل -
عام 2017
لم يكن اللّقاء معها كما كنت أتوقع، فكان تنسيقه على عجل، ومُلِئ جزء كبير منه ببرنامج حافل طويل، جعل البعد عنها وأنا فيها أمرًا واقعًا، وصلت إلى المطار، ولم أرَ بعد من المدينة أية صورة تفتح القريحة، أو تشعل جذوة الحب، وهي المدينة التي شغفتني حبًّا، وقرأت عنها وعن تاريخها الكثير، حتى عايشت سكّانها ودخلت قصور حكامها، وأغرمت بصروحها وأوابدها.
هبطت الطائرة وانتقلنا إلى الفندق، كان يعيدًا جدًا عن قلب المدينة التاريخي، في ضاحية نائية جدًا، ومع الازدحام الكبير في المؤتمر، الذي تبدأ فقراته في الصباح الباكر ولا تنتهي إلا في ساعة متأخرة من الليل، إضافة إلى بُعد المسافة عن قلب المدينة التاريخي، جعل الزيارات الخاطفة أمرًا غير ممكن.. فازداد التحنان توقّدًا، وأصبح التشوّق ممزوجًا ببعض خيبة الأمل، فأنا فيها ولا أرى منها ما أريد، ولا أشم عبق الحضارة وأتلمّس أوابد المجد..
وفي اليوم الموعود وعلى أثر انتهاء الارتباط الذي حبسني عنها، وقبل الانطلاق إلى اللقاء، رحت أتفكّر في حال المدن، وأحوالنا معها، فوجدت أنّ للمدن أرواحًا تسري في طيّات الزمن، لها طَيف يحضر في استطرادات السائرين وفي لهف المحبّين، تحنو على بعضهم، وتفرّ هاربة من بعضهم الآخر، وتظلم آخرين بقصد حينًا، ومن دونه في أحيان أخرى... وجدت للمدن تاريخًا متجذرًا، ولو غطّت عليه مسحة من حداثة مستعارة، وللمدن عمرٌ كأعمار البشر، لا يقاس بالضرورة بالسنوات فقط، فالمدن لا تشيخ إلا عندما يتخلى عنها سكانها، وينقلبون إلى حواضر أخرى، فحينها تشيخ المدن وتقترب من الموت، وطالما بقيَت المدينة حافلة بأبنائها ستظل عصيّة على الشيخوخة ومتمسكة بأسباب الشباب..
وفي نظرتنا معاشر البشر إلى المدن التي أسهمت في تشكيل التاريخ ثنائية عجيبة، فمن ينظر إلى القشور لن يرى فيها إلا أوابد عاف عليها الزمن، وتآكل بعضها، ولن يلتفت إلا لتلك الأسواق الضخمة، والمباني الشاهقة، وسيعب في نَهمٍ من مراكز التسوّق واللّهو في اجتراء مقيت للهيمنة الثقافية الغالبة، التي أضحت ثقافة بلا لون ولا روح، والخاسر من لم يتلمس تلك الكوامن، ومن كان لقاؤه كخروجه، فتشيح المدينة وجهها عنه، هي ظالمة ومظلومة، ولكنها لا ترد لها محبًّا أبدًا..
أما النظرة الثانية، فهي نظرة الباحث عن روح المدينة، التي يراها في كل حجر من حجارة مساجدها، وفي ردهات المدارس ووجوه العابرين، يتحدث معها عن حالها، ويسأل حكامها عن أيام دولتهم وتقلّبات أحوال الحكم، ودسائس الملوك، وحِيل المتطفِّلين والمتسلّقين.. وكلما دنا من المدينة دنت منه، وقدّمت إليه دروسًا وعبر، من هناك عبر الفاتحون الأوائل، وفي ذلك المسجد تتابع الحكام حاملين المصحف والسيف، وهناك كانت حلق العلم وأكابر علماء الدنيا مرّوا فيها مسلّمين ومدرسين، عاصمة العالم ومدينة الألف مئذنة.
إلى هنا انتهى المعراج الأول، وقد ألحقته بمجموعة من الملاحظات والرؤى، ربما تكمل التجربة الأولى بعض الشيء، وهي:
الرؤية الأولى: تشكّل المساجد واحدة من أبرز روائع الحضارة الإسلامية، وكانت تحتل مكانة متقدمة في التخطيط العمراني في المدن الإسلامية، من بغداد حتى قرطبة، كان المسجد عماد تصميم المدينة الإسلامية، وحوله تقام الأسواق ويبني الناس دورهم، وفيه يتلقّون العلوم، إن كانت علوم الشريعة أو علوم الطبيعة.
واسطنبول مدينة تعج بالمساجد المهيبة، ولكني هنا ألتفت إلى المسجد الأزرق، وموقعه قبالة آيا صوفيا، وكأنّ العثمانيين حينها أرادوا أن يوصلوا رسالة أنّنا على الدرجة نفسها من العزّ والتمكين، لنبني تحفة تضاهي ما تركه البيزنطيون جمالًا وأبهة.
ولا يمكن للداخل إلى مسجد السلطان أحمد إلا أن تأخذه الدهشة لعظم وروعة هذا البناء الشامخ، وبعيدًا عن العمارة الرائعة التي بدأت تتجذّر مع المعمار سنان ومن بعده تلميذه محمد آغا مهندس المسجد، وعن قصة المآذن الست وما تحمل من إجلال كبير للمسجد الحرام، في رواية تناقلها الموروث الشعبي حتى يومنا هذا...
ويتميّز صحن المسجد بخليط بهي من النقوش والزخارف ولوحات الخط العربي فائقة الإتقان والجمال، حتى تحوّل الصحن الداخلي للمسجد إلى لوحة أخّاذة تصيبك بالدهشة والذهول. عظم بناء المسجد والقبّة المهولة التي تعلوه، نموذج للعمارة العثمانية التقليدية (الكلاسيكية)، التي استطاعت التفوّق على العمارة البيزنطية، كما في مساجد السليْمانية والسليمية والسلطان أحمد وغيرها الكثير.
الرؤية الثانية: يسبغ مسجد سيدنا أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه على زائره حالة من الطمأنينة العجائبية، إضافة إلى دروس الهمة والمجاهدة التي يعلمنا إياها ذلك الصحابي الجليل الذي استشهد على أسوار واحدة من أمنع مدن الدنيا. ويتميز المكان بحالة من السكينة لم أجد مثلها إلا في مسجد سيدنا أبي عُبيدة بن الجراح في الأردن ومسجد سيدنا خالد بن الوليد في حمص فرّج الله عنها، ورضي الله عن الصحابة أجمعين.
وهنا أسجل ملاحظة حول تناسق العمارة مع المكان، وتمازج روائع العمارة والبنيان مع روحانية فياضة، وفي المقام وحوله لفتة سياسية ترتبط بإرث النبوة وبمكانة الصحابة، اختارها حكام المدينة من آل عثمان، فكما كان منزل أبي أيوب رضي الله عنه موضع المبيت النبوي، وانطلاقته لبناء الكيان المسلم في المدينة المنورة، كان قبره في اسطنبول عاصمة الدولة العثمانية، انطلاقة لسلاطين بني عثمان، في بناء دولة عظيمة مترامية الأطراف، وجرت العادة منذ فتح المدينة أن يتقلّد السلطان الجديد "سيفًا" في هذا المسجد المبارك، وكانت مراسم تقلّد السيف من الأيام المشهودة في المدينة.
الرؤية الثالثة: سُئلت كثيرًا بعد عودتي من زيارتي الخاطفة، عن الدخول إلى مسجد آيا صوفيا - وكان حينها متحفًا -، وكانت إجابتي أنني لم أستطع الدخول إليه، ولم أقترب من بوابته حتى، فقد شعرت بشيء غامضٍ يمنعني، وشعرت برجفة في قلبي وحزن يكتم أنفاسي، ولم أعرف سبب هذا الشعور حتى مرّ معي ما حصل مع الشيخ الجليل د. محمد موسى الشريف فكّ الله أسره، الذي قال أنّه لم يستطع الدخول إلى مسجد قرطبة الجامع حزنًا وفرقًا على حاله، وأخذته حالة شديدة من التأثّر، وربما ألمّ بي بعض ما ألمّ به على حال المسجد وكيف يدخله الناس من كل حَدبٍ وصَوب، من دون تقدير واحترام لمكانته وموقعه.
هذه هي خواطر المعراج الأول، وفي المعراج الثاني أعيد تسجيل التجربة كرة ثانية، وهي الآن أطوَل مدة وأكثر نضجًا، مع مدخلات أخرى ولأسبابٍ مختلفة، والنيّة البقاء ما قدّر الله تعالى لي، فهل ستظل هذه النظرات ثابتة، وسيحجب عني سحر المدينة بعض مآسيها، سأجيبكم بعون الله عن هذا السؤال في المعراج الثاني.. ألقاكم على خير.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة