دلائل تقدّم المسؤولية.. مَن الراعي على الرعيّة؟
من المفاهيم الخاطئة ما قد استُعمل على الألسن فأصبح حجة قائمة، وهو القول المنسوب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "كما تكونوا يُولَّى عليكم".
وهو حديث ضعّفه الكثير من أهل العلم، إضافة إلى أن الواقع يكذّبه، فالتاريخ حدثنا عن تولي حكام أخيار بعد حُكَّام أشرار، تغّير حال الناس بتغيّرهم، ولولا ذلك لبقوا على ما هم عليه..
وتبدأ مسؤولية الحاكم كونه هو الراعي والحديث الصحيح يقول: "كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته".
وقد أرسل الله تعالى الرسل إلى رؤوس القوم قبل أن يرسلهم إلى العوام منهم، فقد قال تعالى لنبيّه موسى عليه السلام: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}.
وهذا يعني أنّ اجتثاث هذا الطاغوت، إن لم يؤمن أو يصلح حاله، يصبح أمرًا حتميًّا لتغيير حال الناس من حوله، ولو بقي في تسلطه واستعباده لهم، لما أمكن تحقيق أي تغيير في واقعهم ومستقبلهم..
فلا بدّ من نزع الرأس الفاسد حتى يصلح باقي أعضاء البدن. وعندما تبدّل الأمر بتمكين الله للمستضعفين من فرعونهم الظالم لهم؛ أصبحوا الوارثين في الأرض ولهم الغلبة في أمرهم.
قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)}، {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ (6)}.
وفي المقابل كان هناك ملكًا صالحًا، حكم مشارق الأرض ومغاربها وهو الرجل الصالح ذو القرنَيْن، قال تعالى بحقه: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا}، فهو قد قاتل المفسدين في الأرض أمثال يأجوج ومأجوج، وبنى سدًّا في وجههم يصعب عليهم اختراقه، وقد قصد الناس من الرعية في طلب ذلك، ولولاه لما أمكن فعل شيء، قال تعالى عنهم: {قَالُواْ يَٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِى ٱلْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰٓ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا}.
وقد بيّن رسول الأمّة صلى الله عليه وسلم، الميزان في ذلك الصلاح أو الفساد عند الرُعاة وربط ذلك سببًا في صلاح أو فساد الرعية، فقال عليه الصلاة والسلام: "صنفان إذا صلحا صلُح الناس وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأُمراء".
ومن الأمثلة الباهرة في بيان ذلك، عند فتح المسلمين لبلاد فارس، وجاؤوا بالغالي والنفيس من ممتلكات قصورها، ووضعوه بين يدي الخليفة الفاروق عمر رضي الله عنه، الذي قال عندما رأى أمانتهم: "إنّ قومًا أدّوا هذا لأُمناء"، فأجابه سيدنا علي رضي الله عنه: "عففت يا أمير المؤمنين، فعفّت رعيّتك ولو رتعت لرتعوا".
وطوال تاريخ الخلافة الإسلامية، من عصر الخلفاء الراشدين إلى عصر العثمانيين، يشهد التاريخ فيها بتأثر الرعية بما كان عليه حكامها تقدّمًا وتأخّرًا.
فقد أدّى انشغال الخلفاء والأمراء في مرحلة من التاريخ الإسلامي إلى الانشغال في علم الجدل، والبحث في مسألة (خلق القرآن)، إلى الانحطاط شبه التام، وفي مرحلة ثانية عندما كثُر اللهو، والسهر، ومجالس العزف، والوتر، بما فيه من معاصي، وأصبح تشويه تاريخ الخليفة المسلم هارون الرشيد الذي يضرب به المثل في العدل وبلوغ ملكه كل مِصر وقطر في الأرض، حتى ورد عنه قوله للغيمة في السماء: "أمطري حيث شئتي فخراجك عندي". أقول حوّلوا اسمه للقينات والمعازف والخمر والعياذ بالله وكل ذلك يغير بمسؤولية الحاكم في اجتثاث الفساد وإصلاح العباد.
وعندما انشغل حكام آخرون في الدولة الإسلامية، بالكراسي والمناصب وبلوغ أعلى المراتب سُلط عليهم المغول كالجراد فاحتلوا كل البلاد، وذبحوا المرأة، والوليد والشاة، حتى دخلوا قصر الخليفة وذبحوه في قصره، إلى أن مكّن الله للأمة المظفر قطز، الذي نال منهم وأعادهم القهقري أذلة إلى بلادهم.
وفي عصر الخلافة العثمانية قيّض الله من خلفائها محمد الفاتح رحمه الله، الذي فتح بلاد القسطنطينية، وآخرهم السلطان عبد الحميد رحمه الله، الذي أبى على نفسه، ودينه أن يعطي اليهود ولو حفنة من تراب أرض الإسراء والمعراج في فلسطين. فتكالب أهل الشرك والكفر، وأسقطوا خلافته، ولولا ذلك لما أمكن لهم أن يصلوا إلى شبر واحد من أرض فلسطين المسلمة.
ويبقى أخيرًا أن نقول أن الواقع الذي نحياه في بلادنا، خير شاهد على مسؤولية الحكام في كل ما أصابنا من فساد ونهب وسلب، ومن ضياع حقوق وأموال الناس، ومن غلاء فاحش أوصل الناس إلى مراتب من الذّل والانحدار، يأبى أن ترضى به حتى البهائم في الحظائِر والحمير.
هم حكام هذا البلد والرعاة فيه، هم أنفسهم الذين جعلوا الناس في غالبهم ينامون على الحُصر البالية، ويأكلون بقايا فُتاب موائد الأسر الغنية الغالية، ولا يجدوا لأولادهم، ولا لأطفالهم، الحليب، ولا الدواء، ولا أدنى حقوقهم الإنسانية الباقية.
ولا يعني ما قلناه، أننا لا نضع أي لوم على الشعوب في مسؤوليتها المشتركة مع حكام بلدانها؛ فلهم في ذلك مشاركة في رفع الظلم عنهم، أو الرزوح أكثر تحت النيّر فيها، مصداقًا لما قيل: "الناس على دين ملوكهم". نسأل الله أن يُصلح الراعي والرعية، وأن يقيّض للأمّة من يصلح لها شأنها، ويرفع لها اسمها، وذكرها، ويزيل الغشاوة والعتمة عن طريقها.
والحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة