نحن والإعلام
قبل ما يقارب العشر سنوات، كنت أشاهد برنامجًا وثائقيًّا أجنبيًّا، عن جندي أمريكي في أفغانستان قتله أفغاني، صوّر الوثائقي لحظات الجندي الأخيرة، وكيف أن هذا الجندي يفكر بابنته وعائلته، وحياته معهم، تأثرت كثيرًا، تعاطفت مع الجندي وغرقت باللحظة، ثم سرعان ما فصلت نفسي عن المشهد، وتذكرتُ أن هذا الجندي هو المعتدي وغالبًا قتل الكثير من الأفغان.
كنت أقرأ في كتاب أظن عن علم نفس الإعلام والتأثير- نسيت اسمه - وضع الكاتب التمرين التالي:
تخيّل سفينةً انفجرت في عرض البحر وعليها بحارة، ما هو شعورك؟
غالبًا سنشعر بالحزن عليهم وندعو لهم.
ماذا لو عدنا بضع ساعات للخلف وعرفت أن هؤلاء البحارة، غَزَو جزيرةً أهلها مسالمون، وعاثوا في الجزيرة فسادًا وقتلًا، كيف ستكون مشاعرك؟
ستشعر بالتشفي، وكأن الله تعالى انتقم للمظلومين.
هكذا يفعل الإعلام، يعرِض من المشهد ما يجعلنا نتعاطف مع مَن يريد.
هل سمعتم بفيلم الجوكر؟
حسب ما سمعت من النقّاد،( لم أشاهد الفيلم) فإنّ هذا الفيلم يجعلنا نتعاطف مع القاتل أو الشخصية السيئة، لأنّه يبرر لها تصرفاتها بناءً على عرض ماضيها... أقول: المشكلة الأكبر ليست هنا، المشكلة الأكبر أن المشاهدين تعاطفوا مع المهرج أو الجوكر، أكثر من تعاطفهم مع ضحاياه بكثير، لنفترض أن الجوكر هو ضحية لطفولة قاسية وهذا يجعلنا نتعاطف معه، أليس من حق ضحاياه أن نتعاطف معهم أيضًا؟
نأتي الآن لمشاهير السوشيال ميديا واليوتيوب وحفلات تحديد جنس الجنين كنموذج، تدمع عينانا، ويرق قلبنا، وينهز كياننا تعاطفًا وفرحًا لمشهور نتابعه، عنده عدة أولاد، أكثر من تعاطفنا وفرحنا لامرأة منّا وفينا، حملت بعد معاناة وألم وإحباط سنوات من الانتظار.
رأيت تعابير الغضب والاستهجان على وجوهكم، تريدون أن تقولوا لي: يعني لو لهذا المشهور أولادًا، هل هذا يقتضي أن لا نفرح له؟
لا أقصد ذلك، بل نفرح له، لكن لا تقنعونني أن الوضع الطبيعيّ هو أن نفرح لمن عنده أولاد، أضعاف فرحنا لمن طال انتظاره لهم... هكذا يحصل غالبًا عندنا.
حتى مشاعرنا هم من يوجهونها ولسنا نحن.
توفيت - نحسبها شهيدة - أسيرة محررة وصحفية فلسطينية اسمها روان، كانت تدافع عن الأقصى، كانت تحمل قضية، كانت تعرّض نفسها للخطر، قتلت برصاص الغدر الإس.... لي، نزفت حتى الموت، بالكاد ذكرها بعض أهل الأرض، ولا يضرها ذلك، بل نرجو أن ذكرها عالٍ في السماء، لكن يضرنا نحن.
نحن الذين نتعامل بالخيار والفقوس، فنشعل وسائل التواصل لموت صحفية، وبالكاد نذكر الأخرى، ونحن ندّعي أننا حزنا على الأولى لأنها تدافع عن فلسطين، وكلامي هنا لا ينتقد حزننا على الأولى، بل حزنّا عليها ففعلًا، ونقدّر جهودها، إنما كلامي ينتقد عدم حزننا على الثانية كما يجب.
نعم، سأذكر هذه المقارنة بينهما، ولن أستسلم لخوفي من تعليق البعض بقوله: لا داعي للمزاودات، أو قوله: لا داعي لهذه المقارنات.
بل لها داعٍ كبير، عسى أن نستعيد حريتنا، وكما أقول دومًا: 'في زمننا، باتت الحرية الحقيقية هي التحرر من سطوة الإعلام'.
الزر قربكم وجهاز التحكم بيدكم بفضل الله، افصلوا أنفسكم عن التأثر الزائد بالإعلام.
أتذكرون ماهو الذنب الوحيد، قال الله تعالى: {وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَة فِی دِینِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِۖ وَلۡیَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَاۤىِٕفَة مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ }
[سُورَةُ النُّورِ: ٢]
إنه الزنا، والزنا غالبًا يأتي نتيجة علاقة حب، سواء حب حقيقي أو مُتوهَم، ولا داعي لأن أقول لكم أن علاقات الحب هي أكثر علاقات تلقى تعاطفًا وتأثرًا، لذلك نجد الروايات الرومانسية هي الأكثر انتشارًا، ورغم ذلك أمرنا الله بأن لا تأخذنا بهما رأفة عند تطبيق العقوبة، وطبعًا لا يعني ذلك استباحة كرامتهما كأشخاص أخطؤوا ثم تطهروا بإقامة الحد عليهم.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن