من حقائق النقص في الإنسان، على الأرض وتحت مواطئ الأقدام
قال تعالى عزّ وجل: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَٰبٌ حَفِيظٌۢ}
قال العلماء في معنى الآية: أي في علم اللّه تعالى ما تأكل الأرض من أجسادهم في البلى، نعلم ذلك ولا يخفى علينا أين تفرقت الأبدان، وأين ذهبت، وأين صارت 'وعندنا كتاب حفيظ' : أي حافظ لذلك، فالعلم شامل والكتاب أيضاً فيه كل الأشياء مضبوطة.
قال حَبر الأمّة، ترجمان القرآن عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنه، في سبر أغوار معنى الآية: 'قد علمنا ما تأكل من لحومهم وأبشارهم، وعظامهم وأشعارهم'.
ونبدأ من هنا لنقول أن الآية الكريمة هي أكبر بكثير في معناها من كلماتها القليلة، وأن هناك العجب العجاب ممّا يستدل به في ظلالها.
وفقه مقاصد الآية على وجهين:
الوجه الأول: الأخذ بظاهر الآية، وهو ما يفيد أن المراد بنقص الأرض منهم، إنما هو لمن يدبّون عليها ويسكنون بها، فهم في تناقص بحلول الموت عليهم بشتى الصنوف والأسباب، وهو ما عنته آية أخرى في قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} البقرة.
واعتماد كلمة الدفع في الآية الكريمة فيها إشارة إلى مرادين:
الأول: حلول حالة الموت غير الطبيعي، وغير العادي والناتج عن الحروب والتي تدفع الناس بعضهم ببعض، جراء استعمال الآلات التدمير والهلاك على بعضهم البعض.
والمراد الثاني: تكاثر الناس وتزاحم أقدامهم في الأرض، ويكون كثرة المولودين الجدد، سبباً من أسباب أصحاب الهرم والكبر للدفع بهم إلى أجلهم المحتوم، وهو ما يشبه تجدد الخلايا في الجسد الذي لا يمكنه البقاء إلا بهلاك خلاياه القديمة.
الوجه الثاني للآية والذي هو أكثر اعتماداً وترجيحاً، أن المراد بالنقص للأرض بمن فيها؛ إنما هو بعد موارة الأموات التراب، فإنهم وإن أصبحوا في باطن الأرض بعد أن كانوا على ظاهرها فهم ما زالوا يتفاعلون بها وتتفاعل بهم.
وقد قيل في معنى الأرض أنه مأخوذ معناه ومصدره من القرض، لأنها تقرض عليها مرتين، المرة الأولى بأنقاضهم بعد الموت، وذلك أن الأرض عندما تستقبل في بطنها من كان على ظهرها؛ فإنها تشترك هي ومن يسكن في أعماقها، من القوارض والهوام والحشرات فنهش لحم الآدمي وتناول كل ما في بطنه وباطنه من ماء في الأمعاء وحتى يجف صاحبها ويصير بلا ريق ولا مريق.
وليس في ذلك المصير المحتوم ثمة إهانة لجنس الآدمية المكرّم عند اللّه وخليفته في أرضه .
ذلك أن التكريم في أصل خلق الإنسان لم يكن للجسد وإنما للروح قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} الحجر
فانظر إلى الأمر بالسجود هنا قد جاء بعد نفخ الروح فيه وليس قبله.
كما أنه سبحانه قد قدّر على المخلوقات التي هي على الأرض، أن تعود إلى الأصل الذي خُلقت وسُوّيت خلقتها، الأولى منه قال تعالى:{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ} طه. وقد استثنى الإسلام أجسادًا من ذلك المصير المحتوم لقوله عليه الصلاة والسلام: 'إنّ اللّه حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء والشهداء'.
فأما الأنبياء من كرامة اللّه لهم أن حفظ أبدانهم المطهرة من الأرجاس والمزكّاة بزكاة النبوة.
وحرّم على الأرض أن تمسّها أو تبتلعها في جوفها، وأما الشهداء فمن كرامة اللّه لهم أن حفظ لهم جسدهم الذي قدموه لقاء مرضاة اللّه، وإعلاء كلمة دينه في الأرض قال تعالى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، وقد قيل في معنى الآية العديد من الأقوال ومنها أن الشهيد لا يبلى في القبر ولا تأكله الأرض، وهذا ليس مما اقتصر على النقل دون المشاهدة والمعاينة.
ومن أسماء اللّه تعالى الحفيظ، والعليم ويدخل في معناهما ما ذهبت الآية إليه في علم اللّه الأزلي بحفظ الذين أكلت الأرض أجسادهم في البرّ والبحر، منذ بدء الخليقة وإلى قيام الساعة في مشارق الأرض ومغاربها مع أسماء كل واحد منهم، وما أكلت الأرض منهم وما أبقته من بعضهم مما لا يعلمه ولا يحصيه إلا اللّه تعالى، وهو سبحانه القائل: {وكل شيء أحصيناه كتابا} ويقول عزّ وجل أيضًا {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا}.
ومما ينبغي الوقوف عليه هنا تتميمًا للفائدة المرجوة من حديثنا القول أن هناك أجسادًا تخضع لما يسمى بالتحنيط، وهذا الذي يراد به وضع مواد حافظة في جسد الميّت لأجل حفظ بدنه سنينًا مديدة، وهو ليس بالأمر الحديث حصوله في هذا العالم؛ بل إنه يمتد إلى عصور قديمة جدّاً في بلاد الفراعنة، حيث قدّر اللّه أن يحفظ جسد الطاغية فرعون مرتين.
الأولى عندما أمر سبحانه البحر بعد أن غرِق فرعون فيه أن يقذفه إلى البرّ ليكون لمن خلْفه بتسكين اللام آية، وفي قراءة ثانية لمن خلَفه بفتح اللام أي لمن يخلفه من بعده كذلك آية وعبرة.
والمرة الثانية كان حفظ فرعون بأيدي قومه حيث أنهم قد حنّطوا بدنه، وبقي كما هو إلى يومنا هذا بجسده وأما روحه فهي في النار، قد أعدّها اللّه له ولمن معه قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} وقد امتد أمر التحنيط للأبدان إلى عصر قريب من زمننا في القرن الماضي حيث تم حفظ كثير من أجساد القادة الملاحدة في العالم مثل لينين وستالين وغيرهما..
ولا شك أن كل ما فعله من يقدّسون المادة وينكرون الروح قديمًا من تحنيط رؤوس القوم فيهم ظنًّا منهم أنهم بذلك يخلّدونهم فهم واهمون ذلك أن اللّه سبحانه وتعالى قال وهو أصدق القائلين {كل من عليها فان} والموت وإن كان أحد وجوه الفناء فإنه سيعقبه هلاك محتوم لأنك شيء مخلوق إلا اللّه عزّ وجل قال تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه}.
ونختم فنقول أنه سبحانه كما كتب أرزاق العباد المعدودة فقد كتب لهم آجالهم المحدودة، وأن كل هذه الأجساد الآدمية الحية والتي يسري في عروقها الدم الثخين الدفّاق، سوف يأتيها الموت عاجلاً أم آجلاً.
فمن يرى أصحاب هذه الأجساد وقد كانت على أحسن حال من اكتمال البدن فيها وانتصاب العود وثبات القدم، وبعدها يزوى هذا المخلوق ويعتريه الوهن، وتتوقف فيه الحياة، وتطلع الروح من مكانها، ولا ينفع النفخ في الجسد ولو اجتمعت عليه الأمم.
سوف يعلم يقينًا أن اللّه سبحانه قد أحصى ما نقص من مخلوقه وجمعه في القلم، وسوف يعيد الأبدان إلى ما خرجت ولو بعد ردح طويل من الزمن فينفع الإيمان بذلك من صدقه في حياته ومات عليه، ولا ينفع من كذبه وظنّه وهمًا وليس ينفعه الندم.
والحمد للّه رب العالمين
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة