خطرات حاضرة مع الذكرى النبويّة العاطرة
{وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم:5].
وُلَد الهُدَى فالكائناتُ ضِياءُ * * * وفَمُ الزمانِ تَبسُّمٌ وَثَناءُ
إنّها ذكرى يجب أن تكون حيّة في كلّ قلب، حاضرة في كلّ يوم، تملأ حياة الأمّة وتسعدها، بهديها ومتجدّدة بعطائها..
في ربيع الأول ولد الهدى وبدأت رسالة الإسلام الخاتمة، المُجدّدة لرسالات الأنبياء والمُرسلين، الناسخة لها..
وفي ربيع الأول بدأت قصة النهاية للكفر والخرافة، والظلم والطغيان، وضياع الإنسان..
وفي ربيع الأول تشرّفت يثرب بقدومه الشريف صلّى الله عليه وآله وسلّم، ليصبح اسمها المَدينةَ المُنوّرة، وتكون الحاضرة الأولى لحضارة الإسلام، التي ملأت الدنيا نوراً وهدى، ورحمة وعدلاً..
وفي ربيع الأول بدأت كتابة تاريخ جديد لهذا الإنسان وهذه الأرض، بعدما لوّثها الشيطان وجنوده وأولياؤه بدنس الشرك بالله تعالى، والظلم والعصيان..
وإنّ من يريد أن يستجلي حقيقة ليلة المَولد وفضلها؛ يجب عليه أن يستعرض تاريخاً كاملاً، هو تاريخ البشريّة قبل الإسلام بجميع أجناسها ولغاتها، وعاداتها وأديانها، وأنظمتها في الحياة، وفلسفاتها ومذاهبها في العقل والتّفكير.
فإذا فَعَل ذلك عرف سرّ عظمة هذه اللّيلة، وعرف أنّ قافلة الإنسانيّة كانت تتخبّط في ظلمات الجهل والشّرّ والفوضى، وتسير إلى الهلاك والدمار، وتقيم على الضّيم والذلّ، وإذا ارتفعت في بعض أطرافها أصوات خافتة للحقّ والحكمة فإنّها سرعان ما تضيع في صخب الباطل وزيفه وغوغائه.
لقد أعضلت أمراضها، وفقدت أطباءها، واستفحل الشّرّ بين أفرادها وجماعاتها، وسيطرت عليها الحيوانيّة المُتوحّشة، والغرائز السافلة، وأصبحت في أشدّ الحاجة إلى هادٍ يهديها إلى سبيل الحقّ، وإلى حام يحميها من طغيان الباطل، وكان قدر الله جلّ في علاه أن يكون ذلك الهادي محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم، الذي بشّر به الأنبياء والمُرسلون، وكان خاتم النبيّين، فكانت ليلة ميلاده غرّة في جبين الدهر، وميلاداً جديداً للإنسان المُكرّم عند الله..
إنّها ليلة لا كالليالي، ولم تكن ميلاد رجل كالرجال.. إنّها ليلة ولد فيها الهدى بأكمله، والرّحمة بأجمع حقائقها ومعانيها..
وإنّ العالم كلّه في ذلك الوقت كان مُتعطّشاً ومُتشوّقاً إلى رحمة الله تعالى وهدايته، فكان محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم رحمة الله تعالى للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
في هذه الليلة الغرّاء على جبين الدهر وُلد الهدى الذي محق ظلمات الضّلال، وجاء الحقّ الذي محا الباطل، والتّوحيد الذي قضى على الوثنية والخرافة، وولد فيها النّور الذي بدّد الظّلام، والحريّة التي فضحت خرافات الجاهليّة والعبوديّة للطواغيت، ووُلد فيها العدل والمُساواة، التي قضت على الأَثَرة والأنانيّة، ووُلدت فيها الأخوّة التي أبطلت البغي والعدوان، ووُلدت الرّحمة التي قضت على البخل والقسوة، والظلم والجبروت والطغيان، وولدت فيها الشّجاعة التي تنصر الحقّ، وتقهر الباطل..
وبالإجمال ولد فيها الإسلام، الذي ارتضاه الله للعباد.. وما أدراكم ما الإسلام؟! دين الحقّ والهدى، والعدل والسلام..
ومن منطلق هذه الليلة الغرّاء على جبين الدهر حقّ لمُحمّد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، أن يعلن بأمر الله تعالى للبشريّة كلّها رسالته العالمِيّة الخاتمة: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]. بعدما جاء الخطاب لأهل الكتاب، ومنذ عهد نبيّهم موسى عليه السلام: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الأعراف:157].
وإنّ هذه الذكرى الكريمة مناسبة مهمّة لاجتماع الأمّة على كلمة سواء.. والكلمة السواء في هذا الباب: هي الاتّباع للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، والتأسّي به في جميع أحواله.. فأين الأمّة وقادة الرأي فيها من ذلك؟!
لقد جَعل اللهُ نبيّهُ صلى الله عليه وآله وسلم، أسوَة حسنةً للمؤمنين، وحثّهم على التأسّي به، فقال سبحانه :{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، لأنّه صلى الله عليه وآله وسلم جاء بالأَحسن والأكمَل في كلّ شَيء.. لقد جَاءَ بالعدلِ والإحسان، والحقّ والبرّ وَالفضل: فِي العقيدَة والعبَادة، والتشريع والأخلاق.. وكلّ أمر من شأنه أن يسعد الإنسان..
جَاءَ بمكَارم الأخلاق، ومحاسن العادات والآداب، وبكلّ ما يشهد العقل بحسنه وكماله، ورقّته وجماله..
جَاءَ بمثاليَّة واقعيّة لا يعجز أحد عَنِ ارتقائهَا، وتَسنّم ذراها شيئاً بعد شيء.. حَتَّى يبلغ أوج الكمالِ الإنسانيّ، وينافس المَلائكة المُقرّبين في رقيّه وسموّه..
ولو نظرَ العاقل بعينِ البَصيرة لرَأى أنَّ دين الله تعالى وأحكامَ شرعه الشريف كلّها ذوقٌ ولطفٌ، وحُسنٌ وجَمال.. فالذوقُ يَشملُ محَاسن الآداب والعادات، واللّطفُ هو الرفق فِي التعامل مع كلّ شيءٍ، وفِي العلاقة مع كلّ شيءٍ..
والله تعالى رفيق يحبّ الرفق في كلّ شيء، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف.. والجمال هُوَ الدين كلّه.. فإنّ الله تعَالى جميل يحبّ الجمال، وكلّ ما جاء في شرع الله تعالى فهو حسن جميل، وكلّ ما خرج عنه فهو سيّء وقبيح، يدرك ذلك كلّ عاقل، بفطرته وعقله، كما يدركه بحسّه ومقارنته.. وكلّ ذلك ممّا جاء في الأحاديث، وطفحت به النصوص والأدلّة..
والله تعالى يقدّمه للمؤمنين أسوة حسنة، وقدوة عظمى، في كلّ جانب من جوانب الحياة، وهو صلّى الله عليه وسلّم أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ للإنسانيّة كلّها، على اختلاف أحوالها، وتنوّع ميادين حياتها..
ويتحدّى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم البشريّة كلّها بوحي الله تعالى: أنّه سيّد ولد آدم، فهل استطاع أحد من البشر أن ينقض هذا التحدّي أو يبطله ؟! أم أنّ عقلاء الناس، الذين تجرّدوا عن التحيّز والعصبيّة، وتحلّوا بالشجاعة الأدبيّة، في كلّ زمان ومكان يشهدون بالحقّ، ويعترفون بالصدق، فيضعون حياة مُحَمّد صلّى الله عليه وسلّم النفسيّة، وتأثيره الاجتماعيّ في أعلى ما عرفته الإنسانيّة من سلوك عظيم، وتأثير كبير، ويشهدون أنّ آثاره في البشريّة كانت أقوى الآثار، إذ غيّرت وجه الأرض، وبدّلت حياة الإنسان؛ من الجهل إلى العلم، ومن العبث إلى الجدّ، ومن الفوضى والتسيّب إلى النظام وتحمّل المَسئوليّة، ومن البغي والظلم والإفساد إلى الإصلاح والبناء، ونقلت الإنسان من حضيض الهمجيّة والتخلّف إلى أوج الرقيّ والتقدّم..
فإذا كُنتَ طفلاً يتيماً، أو يافعاً، أو شَابّاً، أو زوجاً، أوأباً مُربّياً، فَلَكَ في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة حسنة..
وإذا كُنتَ ملكاً أو رئيساً، أو قائداً غالباً، أو فاتحاً منتصراً، أو كُنتَ مُديراً لشئون الناس فَلَكَ في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسوة حسنة..
وانظر في سيرته الشريفة وحياته صلّى الله عليه وسلّم كيف لم يحمله انتصاره على أعدائه في مواطن كثيرة على أن ينتقم منهم، أو يُنكّل بهم، شأن القادة الفاتحين..!
وإذا كُنتَ فقيراً أو غنيّاً، أو عاملاً أو تاجراً فلك في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسوة حسنة.. كيف كانت أمانته، وسماحته وأخلاقه العظيمة وحسن تعامله.؟
وإذا كُنتَ طالباً مُتعلّماً، أو مُعلّماً مُرشداً فَلَكَ في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسوة حسنة، كيف كان يتعلّم من جبريل عليه السلام، ويتلقّى عنه القرآن، يقبل عليه بكلّيّته، وينصت إليه بمَسامع قلبه، ويتشوّق إلى لقائه؟ وكيف كان ينصت لرأي أصحابه، ويطلب مشورتهم، ويتفهّم آراءهم، ويأخذ ببعضها..؟ وكيف كان رفقه صلّى الله عليه وسلّم في تعليمه، وصبره على جهل الجاهل، وجفوة الأعراب الغلاظ..؟!
وإذا كُنتَ خطيباً داعياً، أو واعظاً مذكّراً فلك في رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أسوة حسنة، فهو الناصح الأمين، والمُرشد المُبين، يتخوّل أصحابه بالمَوعظة بين الحين والآخر، كراهة السآمة عليهم، ويرفق بهم.. وانظر كيف كان يؤثر بليغ القول وجوامعه، ويوجز في خطبته، ولا يطيل على الناس، ولا يملّهم، ولا يذكر أحداً باسمه، ولا يُعَيّنه؟
وإذا كُنتَ عابداً لله متبتّلاً، قانتاً في الليل ذاكراً، فلك في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسوة حسنة، قام من الليل حتّى تورّمت قدماه..
وإذا كُنتَ آمراً بالمَعروف، ناهياً عن المُنكر، أو مصلحاً بين المُتخاصمين، أو قاضياً فلك في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسوة حسنة..
وإذا كُنتَ مجالساً أو مصاحباً، ومقيماً لعلاقات اجتماعيّة مع الناس، فلك في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسوة حسنة.. وانظر كيف كان صلّى الله عليه وسلّم يكرم جليسه ويؤثره، ويتواضع له، ويقبل عليه بوجهه ويؤنسه، ويؤلّف أصحابه، ويرفق بهم، ولا ينفرّهم، ويعينهم فيما هم فيه، ولا يتميّز على أحد منهم؟
وأيّاً من كنت.. وفي أيّ موقع من مواقع الحياة حللت، وكيف أصبحت أو أمسيت، وعلى أيّ حال بتّ أو أضحيت؟! فلك في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسوة حسنة، وقدوة مثلى، تضيء لك ظلمات الحياة، وتخرجك من متاهات الحيرة والضياع، ولن تجد في غير حياة المُصطفى صلّى الله عليه وسلّم ما يهديك ويغنيك، أو يجديك..
وبعد نيّف وأربعة عشر قرناً من ميلاد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لا يزال الإسلام يَتَحدّى الزمان والمَكان والإنسان.. يَتَحدّى كلّ مناوئيه، مهما تخبّطوا في مكرهم، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم..! ولا يَزالُ يَتَحدّى بالقرآن، بكلّ حرف ومعلومة فيه.. ويَتَحدّى بحضارته، وبحقائقه وعلومه وتشريعاته.. ولا يَزالُ يَتَحدّى بهذا النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ؛ بعظمة شخصيّته الجامعة لكلّ عظمة.. وسيرته وهديه، وعلومه وآدابه، التي لا تزال تمدّ عقل الإنسان بالحكمة والكمال..
والسؤال المُخجل المُحرج: أين أمّة الإسلام من ذلك كلّه.؟! أين هي من هذه النعمة الكبرى؟! والمِنّة العظمى؟!
وبعد؛ فإنّ ميلاد النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان نقطة تحوّل كبرى في حياة الإنسانيّة كلّها، فلم يكن خاصّاً بأمّة من أمم الأرض، ولا ببقعة من بقاعها، ولا بحدث تاريخيّ كسائر أحداث التاريخ.. فليس من حقّ الأمّة الإسلاميّة وحدها أن تحتفل بهذا النبيّ الكريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل من واجب الإنسانيّة كلّها أن تعلن يوماً، بل أسبوعاً، بل شهراً بكامله لتحتفل، ليس احتفالاً « فولكلوريّاً »، أو تقليديّاً كما هو شأنّ الذين لا يعرفون لهذا النبيّ قدره..
بل احتفال علميّ حضاريّ، تنصف فيه الإنسانيّة ذاتها، وتقوّم موقفها من هذا النبيّ، وخطواتها في أيّ اتّجاه تسير، وما المَآل الذي إليه تصير.. تنصف ذاتها بعدما عقّت هذا النبيّ الكريم قروناً طويلة ؛ فافترت على شخصه الكريم، ودينه القويم، فجنت على نفسها قبل كلّ شيء، وظلمت أمّة هذا النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أشدّ الظلم، واعتدت عليها أسوأ العدوان، وتسلّطت عليها بكلّ سوء من نهب خيراتها، والسعي في إفساد مجتمعاتها..
ولا ننكر أنّ الأمّة ظلمت نفسها ببعدها عن دينها وهدي نبيّها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يتسلّط عليها عدوّها، فكانت قابليّتها للظلم أسوأ من ظلم عدوّها لها.. فلتستدرك بهذه الذكرى تقصيرها وما فاتها، ولتستعد وعيها وتقديرها لنعمة ربّها، ولتجدّد صلتها بنبيّها صلى الله عليه وآله وسلم، فلا عزّ لها والله، ولا نهضة، ولا كيان، ولا استعادة لحقوق إلاّ بالعودة الصادقة إلى كتاب الله تعالى، وهدي نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم. والله وليّ التوفيق والسداد.
والحمد لله أوّلاً وآخراً.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة
هل تظنُّون؟!
السنوار... رسالة الرمق الأخير