أهمية التذكير بمولد خير البشر.. دلائل وعبر
لقد قدّر اللّه تعالى الكثير من الأحداث، والمواقف التي سبقت ولادة رسول اللّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ورافقته مع مولده، فاستمرّت معه إلى ما بعد مبعثه وتبليغ دعوته.
ومن تلك الأحداث العظيمة والتي يمكن عدّها لفتاً للأنظار، شحذاً للأفكار، ما جرى من حوادث عظام في بلدَيْن مختلفَيْن أحدهما بعيد عن أرض مكة، قصدت به انشقاق إيوان كسرى في بلاد فارس، وانطفاء نار المجوس فيها، وكأن في ذلك إشعارًا وإنذارًا بما سيحلّ يوماً بملك هذه البلاد من تمزيق ملكه، وتحطيم عرشه، وفتح بلاده ليحلّ الإسلام في دياره.
والحدث الثاني والذي حدث في عام ولادة نبي الأمة عليه الصلاة والسلام، إنما حمل اسم أصحابه وهم أصحاب الفيل، حيث أنّ ملكاً يسمى أبرهة الحبشي، عقد العزم على أن يغزو مكة ويهدم بيت اللّه الحرام، البيت العتيق، بقصد منع الناس من التوجّه إليه بالعبادة ، لأنه يريد أن يتوجهوا إلى معبد وثني من معابده بدلاً عنه.
وقد حشد جيشاً عظيماً ومعه الفيلة التي ما إن وصلت إلى البيت الحرام؛ حتى بركت إثرها من عظمة المكان، وهيبته ولم يحقق أبرهة غايته الخبيثة بالاستعانة بها.
وقال عبد المطلب قولته المشهورة : "إن للبيت ربًّا يحميه"، وقد أرسل اللّه جندًا من عنده { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} وكانت هذه الجنود طيورًا على شكل زرافات، غطّت أفق السماء، تحمل في مناقيرها وأفواهها وأقدامها حجارة صغيرة من سجيل، حيث كانت تلقي بحممها الملتهبة على جنود أبرهة، حتى هشمت أبدانهم جميعاً وأصابتهم بالجدري فكلّما حكّ أحدهم جلده تساقط عنه لحم بدنه.
وتحوّلوا إلى ما وصفهم القرآن به {فجعلَهم كعصفٍ مأكول}، وهو على أحد الأقوال التِّبن الذي أكلت منه البهائم، وذرته، تعصف به الرياح فارغاً من كل شيء.
ومن البشارات التي كانت إيذانًا بالمولد العظيم ورفعاً لقدر صاحبه وشأنه، حتى قبل أن يرى نور الحياة. ما قاله رسول اللّه صلّى اللَّه عليه وسلم عن نفسه : (أنا دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج نوراً أضاء له قصور الشام..)
وتستمر بشائر الميلاد لخير من سكن البلاد من العباد، مع خروجه إلى نور الحياة، وهو وليد رضيع يلتقم ثدي مرضعته حليمة السعدية ، لترى هي ومن حولها العجب العُجاب من البركة في لبنها، ومن كثرة الضرع في لبن الناقة والشياة عندهم.
وكل ما ذكرناه هو من أثر ما قبل الولادة النبوية وما تلاها، وقبل أن يبعث رسولاً من عند اللّه سبحانه، يحمل رسالة تجمع خلاصة رسالات الأنبياء جميعاً في التوحيد الخالص لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ }
ومع عظيم هذه الإرهاصات للولادة المباركة لنبي الأمة صلى الله عليه وسلم، فإن هناك من يحاول التقليل من أهمية يوم المولد النبوي، ويعدّه يوماً عادياً كسائر الأيام، محتجًّا باتّباع السنّة في ذلك من خلال القول إنّ أصحاب رسول اللّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهم الأقرب إليه والأحق بأن يحتفوا به ممّن سيأتون من بعدهم.
والرد على هذا القول يمكن أن يشارك فيه العقل والنقل معاً:
فأما الاحتجاج بالعقل والمنطق، فإن أحداً لا يمكن أن يذكر أحداً أو يتذكره وهو بين ناظرَيه، وأصحاب رسول اللّه صلّى اللَّه عليه وسلم، لم ينالوا درجة الصحبة إلا لأنهم رأَوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، بأمّ أعينهم، فلِما لهم أن يحتفلوا بمولده وهو بين أظهرهم؟.
وأما الاحتجاج بالنقل، فإن لنا فيه أكثر من قول، يدلّ عليه ما ورد في الكتاب والسنة من تعظيم شهر ويوم وليلة على ما عداهم من الأشهر والأيام والليالي، فقد فضّل اللهّ تعالى شهر رمضان على سائر الشهور، وفضل يوم الجمعة على سائر الأيام، وفضل ليلة القدر على سائر الليالي، فكيف لا يكن ليوم وشهر وليلة مولد رسول اللّه صلّى اللَّه عليه وسلم محل تفضيل وتذكير..
ثم إن هناك العديد من الإيحاءات والإشارات القرآنية، الدالّة في معناها على أهمية التذكير بالأيام على اختلاف أحداثها، ومنها ما أمر اللّه تعالى به، ورحمته على الناس جميعًا، بل على سائر العالمين، وأما الرسالة فهي تبع لها إذ لولا وجوده لما أمكن للناس معرفة رسالته.
وقد جمع اللّه تعالى الفضل والرحمة في الحديث عن النبي المختار في كتابه العزيز فقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍ}.
وأما الرحمة ففي قوله تعالى: {وما أرسلناك إلَّا رحمةٌ للعالمين}.
ومن يمكن له أن يُنكر أنّ ولادة رسول اللّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ليست رحمة للخلق جميعاً، وأن اللّه تعالى رحِم عباده بمجرّد أن خلق هذا النبي الكريم، وجعله فيهم واللّه تعالى يقول: {وما كان اللّه ليّعذّبهم وأنتَ فيهم}.
ومن مقتضيات هذا الفضل وتلك الرحمة أن يفرح بها أهلها (فبذلك فليفرحوا)، وأيّة فرحة تعادل قدوم من قرب اللّه تعالى اسمه العلي، مع اسمه في الشهادتين، ورفع له قدره وذكره، ولن يدخل أحد الجنة قبله وقبل أن يقرع هو بابه.
وتعظيم كل حدث يعظُم بعظمَة صاحبه، وإنّ ولادة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، فرحَت بها الدنيا بأرضها وسمائها وملائكتها، وإنسها وجنّها وحتى وحشها وطيرها، فلما لا نفرح ولا نبتهج، ولا نتذكّر يوم مولده الذي يذكرنا بنهجه وسيرته العطرة، ودليلنا في ذلك منهج القرآن الكريم حيث أنه سبحانه ذكر في كتابه العزيز الحاجة الدائمة إلى التذكير والذي يؤدي إلى حسن التدبير، قال تعالى معلّماً رسوله عليه الصلاة والسلام: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ}، والتذكير هنا يفيد الاستمرار فقد جاء بصيغة الأمر للحاضر والمستقبل.
وما المانع أن تكون سيرة رسول اللّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فيها بعد القرآن من الذكرى والتذكير لكلّ ذي قلب بصير.
إنّ تهذيب الاحتفاء والاحتفال بالمولد النبوي الشريف، والوقوف عند الحدود الشرعية فيه، من جهة عدم الغلو والإفراط في المديح انطلاقاً مما أوصى به الرسول الكريم صلّى اللّه عليه وسلم، أمته (لا تُطروني كما أطرتِ النصارى عيسى بنَ مريمَ، وقولوا: عبدُ اللهِ ورسولُه)، هو أمر لا خلاف فيه.
وقد رفع اللّه قدر نبيه عليه الصلاة والسلام، عندما سمّاه عبداً له وقال هو عن نفسه (أفلا أكون عبداً شكوراً) ولكن بالمقابل لا ينبغي التفريط في حقّه عليه السلام علينا، فنكن بذلك غير مفرِطين ولا مفرّطين، جعلنا اللّه تعالى من المقتفين أثر رسالة سيد العالمين عليه أتم وأزكى الصلوات والتسليم، وأنالنا من شفاعته العظمى يوم الدين.
والحمد للّه رب العالمين
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن