أ. راما ماهر الشجراوي أردنية، من أصول فلسطينية كاتبة للخواطر والمقالات، ومدونة في الجزيرة، حاصلة على شهادة جامعية في اللغة الإنجليزية وآدابها وتعمل في مجال التعليم
شهر الخير
الزمن أصبح مخيفًا، القتل هنا وهناك منتشر بطريقة مريبة، البعض يحمل الضغينة للآخر، وتلك تتكلم بالسوء عمّن كانت يومًا صديقتها، أما ذاك لم يرَ شقيقاته منذ عامين رغم قرب المسافات.
الجهل في انتشار سريع، العالم أصبح منطقة مهددة بالخطر، الموت ما بيننا يسرق شبابًا وأطفالًا وشيوخًا دون وداع يُذكر.
النفوس لم تعد كالسابق، ما تحمله بعض القلوب الآن سوى الشر والغضب.
جاء شهر الخير، زيّنوا الشوارع والبيوت، علقوا الأضواء تمهيدًا بقدومه، رفعوا الأهلة هنا وهناك، الفوانيس الآن تملأ الأماكن، اِفسحوا المجال قليلاً للنجوم، اُنشروا الحب ما بين أزقة عبوسكم، حضّروا العصائر الرمضانية المفضلة، ومهدوا أنفسكم للصيام، النهار شاق ومتعب لكن لا بأس، عند سماعكم أذان المغرب ستهمون بالأكل والشرب فورًا والبعض حتى سينسى دعاء الصيام.
أن تصوم عن الطعام عادةً تعلمناها منذ الصغر - لم يعلمونا أنها عبادة وفرض على كل إنسان قادر -، كنا نتباهى ما بين أقراننا أننا امتنعنا عن الطعام لحين موعد أذان الظهر، دون رشفة ماء مسروقة، وكلما زاد الوقت ساعة، كلما تباهينا وأصبحنا أقوياء بنظر الجميع.
لكننا كبرنا وزاد العمر أعدادًا مخيفة، شاب الشعر، وتقوس الظهر ومر العُمر بلمحة البصر، أصبح الصيام فرضًا لا هرب منه، لم يعد بمقدورك التراخي في عدد ساعات الصوم، وها قد عاد شهر الخير، نصوم من الفجر حتى أذان المغرب. نترقب الوقت دقيقة تليها دقيقة من الجوع والعطش، نحضر ما لذ وطاب من المأكولات والأشربة، نصلي الفروض، نقرأ ما تيسر من القرآن، منهم من يتبارى بختمه مرة واثنتان وثلاث دون الإلمام بمعاني كلماته، والقلة القلة من يصوم فقط ظاهريًّا، لا صلاة أثناء النهار، ولا يذكر الله جل جلاله حتى وإن كان متوجهًا للوضوء، والغضب يسيطر عليه كلما لاح من أمامه شيء، انفض غاضبًا من مكانه ليعلو صراخه وتحطيمه لكل شيء يعترض طريقه، وبعد الإفطار يتحول تدريجيًا لكائن آخر ينكر ماهيته ما قبل الفطور.
لكن الصيام الحقيقي هو الصيام عن الشر، هذا الصيام لم يكن في الحسابات يومًا، لم يُرسخ في أذهاننا أن النفس لها الحق وكل الحق علينا بأن نطهرها من كل شيء يجعلها غير سوية، سواء مع أنفسنا أم مع الآخرين، ومن هذه اللحظة أظن أنه قد حان الوقت بأن تبدأ شهر الخير وأنت لا تحمل ذنب أحدهم، أن تطهر نفسك قليلًا، أن تكون أنت الخير لا الشر الذي يخافه الجميع.
لم يذكروا لنا في الكتب المدرسية أو حتى في مجالس العلم عن صيام النفس، أن تصوم عن النوم الطويل بحجة الهروب من الشعور بالجوع والعطش والغضب، وحتى الهرب من الصلاة في وقتها، الصيام عن الاستهزاء والنميمة، الصيام عن المشاحنات ما بيننا، الصيام عن الكره والحسد والضغينة، الصيام عن التلفظ بما لا يرضي الله، الصيام عن غضب الله وغضب الوالدين، الصيام عن قطيعة الأرحام، الصيام عن التفكير بالشر دومًا والانتقام، الصيام عن رفقاء السوء، لكن الفرق ما بين هذا الصوم وصوم رمضان، أن الأول يكون دائمًا لا إفطار فيه، لا يُحدد بشهر أو يوم أو حتى أيام معدودة.
لا يهم عدد الساعات التي تقضيها ممتنعًا عن الأكل والشرب، جرب ليوم أن تصون لسانك وقلبك ونفسك في صيامك المفروض عليك، أن تتمنى الخير لغيرك، أن تمتنع عن أذية الآخرين بكلامك السام، أن تصل رحمك، أن تعين محتاجًا، وأن تساعد فقيرًا، أن تكون متطهرًا من ذنوب الناس؛ لعل الخير والبركة ينتشران ما بيننا.
جرب للحظة أن تتماسك عن الغضب، جرب ألَّا تشتم كبيرًا أو صغيرًا، أن تتحكم في قبضتك بدلًا من انهيارك غضبًا بالضرب والتحطيم، حاول أن تكون شخصًا آخر ليس كالمعتاد وراقب نفسك كيف ستصبح، استقبل رمضانك هذا العام بنفسٍ سوية وراضية، بنفسٍ تخاف الله وتطلب رضاه، بنفسٍ تحب الخير كما تحبه لنفسه، وامضِ في حياتك مطمئنًا بأن الخير كله سيعود لك يومًا ما....
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن