العدل الإلهيّ في الثواب والعقاب الأخرويّ.
لقد كان من أسماء الخالق وصفاته -عز وجل- العدل، والمقسط، والآيات القرآنية التي تحدثت عن معاني العدل الإلهي في كل شيء كثيرة، ومن بين ذلك مبدأ العدل في الثواب والعقاب.
وما دفعني لكتابه هذا المقال، بهذا العنوان، هو مقابلات كثرت في المدة الأخيرة، تتحدث وعلى نطاق واسع عما يسمى العقاب الأخروي بالنار لمن يستحقه ما هو إلا وهم وخيال، وأن المعارض لذلك العقاب يحتج بأن اسم الرحمن، والرحيم _وهما من الأسماء الحسنى_ لا يمكن أن يجتمع معناهما مع عقوبة النار، وسقر، والسعير والحطمة.
وأن الله أرأف بعباده من أن يعذبهم هذا العذاب الأليم، ونحن سننطلق في حديثنا هنا في إثبات العدل الإلهي، والذي هو عدل مطلق ويشمل مما يشمله الثواب والعقاب، أقول ننطلق في ذلك من الدين والعرف معًا، وسند نا في ذلك الآيات الكريمة والأحاديث المتواترة، والتي هي حجة باهرة في إغلاق الأفواه الفاجرة، أو الأقلام المسمومة الساخرة التي تريد النيل من عدل الإله في ثوابه، وعقابه لعباده على أعمالهم. والميزان في ذلك إما بالحسنات الظاهر ثوابها، أو الذنوب المستحق عقابها.
إن مبدأ الثواب والعقاب ليس بدعًا في هذا الدين الحنيف، فضلًا عن الأديان الأخرى، بما فيها اللاسماوية، والتي كان الكثير من شعاراتها رفع ميزان العدل لبيان الخير والشر، والثواب والعقاب فيهما. لأنه لو لم يكن الأمر كذلك لكان ليس ثمه فرق بين من يحسن َومن يسيء.
فليس من العدل القول إن من يأتي إليك بالثمر، هو كمثل من يقذف عليك أكوامًا من الحجر، ومن العدل أيضًا القول إن محاكم الدنيا مهما بلغت في عدلها، في حكمها، فليست قادرة على الإحاطة بكل ما يحتاجه الناس من إعطاء الحق لهم فيما ظلموا فيه، وأخذ الحق كاملًا ممن ظلمهم.
وهذا يحيط به الإله الواحد القهار، لقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ (47)} (الأنبياء)، وقوله سبحانه: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)} (الزلزلة)؛
فليس بعد هاتين الآيتين أوضح بيانًا من بيان عدل الله وثوابه وعقابه، وأنه سبحانه يصل بعدله المطلق ليتعدى الآدميين إلى البهائم. حيث جاء ما يفيد معناه في اقتصاص الله سبحانه يوم القيامة للشاة الجماء من الشاة القرناء، وهومنتهى العدل الرباني. ثم يقول لها جميعًا كوني تراباً فتصير ترابًا، وعندها يقول الكافر {يا ليتني كنت ترابًا} الآية.
وكل ما ذكرناه يقودنا بالتالي إلى أن من طبيعة الإيمان بالثواب والعقاب، أن يجمع العبد في عبادته بين الخوف والرجاء، وفي دعائه لخالقه لقوله تعالى: {یَدۡعُونَ رَبَّهُمۡ خَوۡفࣰا وَطَمَعࣰا}الآية.
وهل الخوف يكون إلا في الطمع بجنته سبحانه، وهل الطمع يكون إلا في الطلب لجنته. أما من اجترؤوا وقالوا إنما نعبد الله حبًّا لذاته لا طمعًا في جنته ولا خوفًا من ناره، فهم قد خالفوا هدي نبيهم -عليه الصلاة والسلام- الذي كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، ويقول لزوجه (أفلا أكون عبدًا شكورًا).
فالحب لله وفي الله مطلوب ومرغوب، ولكن هو بين خالق ومخلوق، وبين عابد ومعبود، فله إذًا حدوده وقيوده. قال تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} الآية. وأن من موجبات هذا الحب من العبد لربه ما قاله سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
وبعيدًا عما ذكرنا فإنّ مَن سوَّل لهم الشيطان، وأملى لهم من البعيدين عن الدين وينتسبون إليه بالاسم فقط، ويحلون لهم القول شفقة منهم على عباد الله وكأنهم أرحم بهم من خالقهم، وأن فكرة النار برمتها لا أساس لها؛ بل إن رحمة الله تشمل المخلوقين جميعًا. وبذلك يكذبون قول الله تعالى {أَفَنَجۡعَلُ ٱلۡمُسۡلِمِینَ كَٱلۡمُجۡرِمِینَ}.
إنّ من الإنصاف القول إنه سبحانه، إذا عذب من عذب من عباده فليس ذلك تشفيًّا منهم، أو تلذذًا بتعذيبهم في ذلك -وحاشا لله- ذلك، وهو سبحانه يقول: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا}، وهو سبحانه أرحم بعباده من الأم بولدها، ولا يعذب بالنار إلا كل متكبر جبار.
جعلنا الله وإياكم من الذين يرجون رحمة ربهم ويخشون عذابه، {إنّ عذاب ربِّك كان محذورا}.
والحمدلله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة