تخيَّلْ أنَّك أعطيتَ طفلًا، في أوائل سنواتِ تعلُّمِه، تفّاحةً، وراقبتَه، وهو يستمتع بها، ويتلذّذ بقضمها... ثمَّ تخيّل ما يكون من شأنه، لو طلبْتَ منه أن يشرح لك سبب المتعة الّتي نالها، باستخدام معايير عِلميّة، وتعليلات منطقيّة: ما معنى متعة الـتّذوّق؟ هل تذكّرتَ مذاق تفّاحة سابقة قبل أن تقضم هذه الـتّفّاحة؟ أيّ قضمةٍ اليومَ كانت أفضل من زميلتها؟ هل لِلونِ الـتّفّاحة أو شكلها دور في مَذاقِها؟ بماذا تُشَبّه شعورَك في أثناء القضْم؟ تخيَّل أنَّك الـتّفاحة، وقل لي: ما شُعورُك وأنتَ تُقضَم؟...
لقد أفسدْتَ متعته قبل أن يهنأ بها الهناءَ الوافي. ولعلَّه إذا عرضْتَ عليهِ في آنٍ لاحقٍ تفّاحة أخرى، أعرَضَ عنها، خَشية أن تَلِيَ التهامَه إيّاها حزمةٌ من الأسئلة!
ذلك ما نفعله في أكثر مدارسنا عندما نطلب إلى المتعلِّم، في سنوات تحصيله الأولى، أن يكون ناقدًا محنَّكًا، أنْ يتبصّر في اختيار الكاتب هذه المفردة دون تلك، وفي عدوله عن هذا الـتّركيب إلى غيره، وأن يتعمَّق في الحكم على ترتيب عناصر الـنّصّ، وما إلى ذلك.
وهل يكون المرء ناقدًا فنّيًّا إلّا بعد سنوات طويلةٍ منَ متابعة الأعمال الفنّيّة، وتذوّقِها، ومحاولة محاكاتها؟ إنَّ الـنّاقدَ الأدبيّ تختمر في ذاتِه الحسّاسة جمالاتُ الـنّصوص عبر الـتّكرار، فعلى المتعلِّمِ أن يقرأ ويستمتع، حتّى يألفَ الحرفَ الرّشيق، والصّوتَ الأنيق، واللّفظَ المنتَجَب، والعبارة السّاحرة، والأخيلة اللّامعة، وزخارفَ الكلام، دونَ أن تُنبِئَهُ بأنّ هذا في الاصطلاح يُدعى كذا، وأنّ ذاك له أركان وشروط، وأنّ ذلك يصلح في هذا المقام لا في غيره. تلك أمور لها أوانها، فلا تكن من المتهوّرين المتعجّلين، حتّى (لا تحترق الطّبخة)، وينفر المتعلِّم من اللّغة وأنماطِ الأسئلة!
لماذا لا نُقرئ المتعلِّم الـنّصوص الجميلة المشوّقة، الّتي فيها وصفُ الطّبيعة السّاحرة، وقصص الطّفولة المحبَّبة، ومغامرات السّفرِ اللّطيفة، ورسائل المودّة الصّافية، ثمَّ نجتهد في أن يفهم معانيها المباشرة، بلطفٍ ويُسْر؟ لماذا لا نُردِف ذلك بأن نطلب إليه أن يكتب أيّ شيٍ يخطر في ذهنه، بعد قراءتها؟ لماذا لا نطلق العِنان لخياله الحرّ الجميل، حتّى ينطلق في ممالِك الإبداع، وآفاقِ الـتّذوُّق؟
إنَّ لغتنا العربيّة بدأت هكذا، كان الـنّاس يُصغون منذ نعومة أظفارهم إلى قصائد الشّعر البهيّة، وخطب الـنّثر الوجيزة، وقصص الملوكِ الـنّادرة، يستمعون ويستمتعون، ويحفظون ويردّدون، وسرعان ما يُنشئون نصوصهم الجديدة تُحاكي الـنّماذِجَ الفصيحة الّتي استساغتها آذانهم وأذهانُهُم. هل كان لديهم نقد لغويّ أو أدبيّ؟ لا يعدو الأمر خطراتٍ طفيفة، يظنّ بعض الباحثين أنّ جزءًا منها مُختلَق. لماذا؟ لأنّ هذه طبائع الأمور. ينبغي أن تُكثِر من الإصغاء والاستمتاع، وتجرّب أن تكون أديبًا لائقًا، وبعد حين يأتي دور الـنّقد. نعم، عندما تتجمّع في ذاتِك نصوصٌ غزيرة، وتتكدّس في سيرتك الذّاتيّة محاولات أدبيّة محترمةٌ، تعلن أنّك ناقد.
إنّ بدايات أدبنا العربيّ يجب أن تكون ركيزةً لبدايات كلّ متعلِّم، ولو كنّا نريده أن يكون أديبًا. اتركوا شأن النّاقد إلى حين، واغتنموا نزعة الأدب والفنّ والذّوق فيه.
ونضيف إلى ذلك تجربة أمّتنا العريقة مع الكتاتيب، فالصّغير يقصدها، ويحفظ القرآن كلّه، أو معظمه، في سنوات معدودات، قبلَ أن يتعرّف إلى تفاصيل تفسير الآيات، أو أسباب النّزول، أو بيان مواضع الإعجاز. وبعد أن تدخل هذه الـنّصوص الفصيحة الرّاقية في وجدانه، وتتشرّبها نفسه، تجده متمكّنًا من اللّغة العربيّة، فإذا بدأ بتعلُّم نحوها وصرفها، سهل عليه الأمر، لأنّه بدأ البداية الصّحيحة، إذ عرَف معلّموه مِن أين تُؤكَلُ الكَتِف.
ينشأ المتعلِّم في زمننا هذا غير عابئ بلغته، لأسباب كثيرة، منها أنّها تساق إليه بغيضة، مثقلة بالاستفسارات المعقَّدة، والـتِّقنيّات المستحدَثة، لأنّنا نستنزفه بالتّعليل، ونريدُ منه في سنوات الـتّعلّم الأولى حفظَ قواعد تفصيليّة، مع أنّه يُغني عنها محاكاةُ الجملِ الفصيحة بشكلٍ آليّ، ويغني عنها أيضًا ملاحظة الصّوابِ عبر تكرار القراءاتِ الواعية. وهذا كلّه يأتي بعد أن نحبِّبَ إليه الإصغاء السّليم، والمحادثة المسلّية، ونجعله يتذوَّق، ويتذوَّق.
والخطير في ذلك كلِّه أنّنا لم نعدل عن الخطّ السّويّ، بسبب اجتهاداتنا الخاصّة، وتجاربنا الحديثة، ولكنّا قلَّدنا بعضَ النّظريّات الغربيّة في الـتّربية والـتّعليم- وفي الغرب نظريّاتٌ تناهِضُها- وانتبذنا منهجًا قويمًا اتّبعه أسلافنا، وأثبت جدواه... فلنتيقَّظْ، ولنعتبِرْ.
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة