حصاد الصيام... بين التفريط والإتمام
لعلّ مدرسة شهر الصّيام، هي أعظم مدرسة تمرّ في حياة العبد المسلم طالت تلك الحياة أم قصرت. فهذه المدرسة هي خاصّة في معناها العبادي، لأن الله سبحانه جعلها له من بين سائر أعمال العبد: "كل عمل ابن آدم له إلّا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به". وصوم رمضان هو أشبه بزرعٍ ينبغي حصادُه، والذي قد يكون خيره عميمًا، وقد يصير حصاده عقيمًا. فالعبرة في خواتيم الأعمال على الدوام ويمكن لنا أن نجمع حصاد الصوم في أربعه أمور:
الأمر الأول: أنّ المساجد وهي بيوت الله في الأرض لها حضورها الخاص في رمضان.
وذلك لأنّه يجتمع الكثير من العبادات مع الصوم من القيام وتلاوة القرآن. ويعزّز ذلك الحضور الذي يختلف في عديده مع ما كان قبله، أي في أيّام السنة العادية، وجود صلاة التراويح، وهي سنّة يتبعها المفروض وهو العشاء، بدل أن تتبعه هي وتشتهر بشهرته. وحصاد العبد المسلم من ذلك كله بعد انقضاء شهر الصيام، إنّما هو التقليل من الحضور للجماعات من الصلوات. وذلك لأنّ سبب ذلك انتهى بانتهاء التراويح، وهو ما يشبه من يسهر الليل ليقوم فيه بالنوافل وينام عن فريضة الفجر، أو من ينام عن الفجر بعد السهر ليصلي صلاة العيد، فهما معًا أضاعا فريضةً محكمةً بسننٍ مستحبةٍ.
الأمر الثاني: وهو التعامل مع القرآن في شهره، لقوله تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن.. فإنه من المعتاد عند أكثر العباد أن يضعوا كتاب ربهم عند بداية صومهم أمام أعينهم، ويقوموا بتلاوته لكسب الثواب المضاعف في شهر رمضان المبارك. وهم أنفسهم قد وقع أغلبهم فيمن ذكرهم الله على لسان رسوله ﴿وقال الرسول يا رب إنّ قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا﴾.
ذلك أنّ العبرة فيما انتهى إليه الأمر لا فيما تمّ الابتداء به. وإذا كان العبد يريد أن يكون حصاده عظيمًا وصيده ثمينًا، فليحافظ على ما ابتدأ به من الخَتْم للقرآن، حتّى يرقى كما وعده رسول الأنام عليه الصلاة والسلام "يقال لقارئ القرآن يوم القيامة اقرأ ورتّل وارتق فإنّ منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها". وليس في الحديث الشريف ما يفيد التخصيص لصاحب هذه المنزلة العليّة بيوم من أيّام السنة أو بشهر منه. وما أدرى العبد أنّه يحيا إلى عام آخر من رمضان الذي مضى عليه، حتّى يؤجِّل ما تعاهده بالحفظ والتلاوة ويترك باقي الأيام والأيام كلّها لله، وإن كان فيها تقديم وتفضيل.
الأمر الثالث: أنّ الله سبحانه قد أكرم عباده الصائمين بالكثير من المكرمات في شهر صومهم. فمنها ما هو دُنْيوي في بعض منه، ومنها ما هو أخروي، ومنها ما هو جامع بين الاثنين.
فأمّا الأول والشاهد منه في آخره: "إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الجنان وغُلّقت أبواب النيران وصُفّدت الشياطين". واذا كان العبد يريد أن يكون حصاده من تصفيد الشياطين ومَرَدَتِهم فليحافظ على العهد في عدم الوقوع في ما هو سلاح للشياطين، في تفريق المؤمنين، في إيغار الصدور فيما بينهم، ونبش القبور فيما ينبغي دفنه من توافه وصغائر الأمور.
وأمّا الأخروي فهو الباب الذي يدخله الصائمون دون سواهم "إنّ في الجنه بابٌ يُقال له الريّان لا يدخله إلّا الصائمون، فإذا دخلوه أغلق، فلم يدخله غيرهم".
وأمّا الجامع بين الدنيوي والأخروي فهو في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للصائم فرحتان فرحة عند إفطاره وفرحة عند لقاء ربه". وعلى كلّ من أدرك رمضان واجتنى من حصاد ثماره، ألّا يضيّع الفرحتين أو إحداهما بعد شهر صومه الطويل، أو بعد لقاء ربّه بأمد من الزمان قد يكون قليلًا...
الأمر الرابع: أنّ من مقاصد الصوم العظيمة إحياء روح المشاركة بين أخوة الدين والإيمان فيما ينبغي الشعور به، وعدم الاقتصار على التزيّن بالشعائر وترك المسلم أخاه المسلم فريسة وطريدة لأعداء الدين اليهود وأعوانهم الأقذار. حيث أنّ ما حدث ويحدث في غزة الأحرار يشيب لهوله من كان في عمر الأولاد الصغار. وهذا الشيب ليس مقتصرًا على ما يفعله اليهود الأنجاس الأشرار. فهذه طبيعتهم التى ذكرها من خَلَقَهم وهو أعلم بهم، وما سطّرها التاريخ عنهم بدقائق الأخبار. بل أنّ ما يشتعل الرأس شيبًا له من هم في موقع المسؤولية والقرار، من الحكّام الّذين باعوا دينهم ودنياهم وكشفوا عن حالهم الأستار وتباهوا أنّهم مع اليهود الطغاة البغاة إخوان لهم وأصهار.
وحصاد ما ينبغي حصاده بعد الصوم، من كل عبد مؤمن يخشى الواحد القهّار، أن يشعر أنّ هناك أطفال قتلى، وأمهات ثكلى، ودماء تجري أنهارًا وترتوي منها الأرض العطشى. وأنّك يا من عَلَّمَك الصومُ الصبرَ والتقوى لا تنسَ إخوانك المقهورين الباحثين عن العزّة في وطنهم بالعلوِّ والتمكين، لا بالذلّ والتخوين. والله خير مسؤول وخير معين والحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة