تبدأ أكثر الأزمات الفكريّة، من نقطة العجز عن وضع الأطر المناسبة للقضايا الخلافيّة، عبر تحديد المصطلحات، ومنعها من التّفلّت، أو من نقطة تقصُّدِ إهمال وضع هذه الأطر.
ولعلّ اشتقاق كلمة "مصطلح" من الصُّلح، دالّ على فضيلة الاصطلاح، ومدى ما ينزعه من فتائل الانفجار. وثـمّة فائدة أخرى في الـمصطلحات، وهي أنّها مفاتيح العلوم، على حدّ تعبير الخوارزميّ (387ه)، إذ بها تختزنُ وتختزِلُ فهمَكَ لِلْعِلمْ، وترسم الحدود بينَ مجالات المعرفة.
***
- الـنّصّ الدّينيّ يحرص على نقاوة المصطلح
ولقد حرص الإسلام على أن يبعد عن التّداوُل كلّ مصطلح يوقع في إرباك، حين يكون مضمونه مخالفًا للمفاهيم الّتي يغرسها الإسلام، أو حين يلتبس هذا المصطلح، بسبب أنّ له مفهومين متضاربين:
فلقد أشار القرآن الكريم إلى ضرورة رفض لفظة "راعِنا"، لأنّ اليهود يرون لها معنًى آخر، غير معنى المراعاة والإمهال، فاللّفظة في لغتهم تعني الرّعونة. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا..}.
ودعا الـنّصّ القرآني إلى عدم الخلط بين مصطلحَيِ الإسلام والإيمان: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}.
ودعا النّبيّ الكريم إلى الاحتراز من لفظة "الرّبّ"، ومن لفظة "العبد"، في سياقات خاصّة، حتّى لا تختلط عبوديّة الرّقّ بالعبوديّة لله. قال عليه الصّلاة والسّلام: "لا يَقُلْ أحَدُكُمْ: أطْعِمْ رَبَّكَ، وَضِّئْ رَبَّكَ، اِسْقِ رَبَّكَ. ولْيَقُلْ: سَيِّدِي، مَوْلايَ. ولا يَقُلْ أحَدُكُمْ: عَبْدِي، أَمَتِي، ولْيَقُلْ: فَتايَ، وفَتاتي، وغُلامِي". [رواه البخاريّ].
ودعا إلى الحذر من وصف العنب بالكَرْم، لأنّ الجاهليّين كانوا يرون أنّ السُّكْرَ يُفضي إلى الجُود والكَرَم، فقال عليه الصّلاة والسّلام: "لا يَقولَنَّ أحدُكمْ لِلعِنَبِ: "الكَرْمُ"، فإنَّما الكرْمُ قلْبُ المؤمِنِ" [رواه البخاريّ].
ودعا إلى الحذر ممّن يغيّرون أسماء الأشياء ليَمْحُوا آثامَها من الأذهان، فقال عليه الصّلاة والسّلام: "يشربُ ناسٌ من أمّتي الخمرَ، يسمُّونها بغير اسمها، يُضرَبُ على رؤوسهم بالمعازف والقَينات، يَخسِفُ الله بهم الأرض، ويجعل اللهُ منهم القِرَدَةَ والخنازير". [أخرجه ابن حِبّان].
وقال أيضًا عليه الصّلاة والسّلام: "لا تَغْلِبَنَّكُمُ الأَعْرابُ على اسْمِ صَلاتِكُمُ "العِشاء"، فإنّها في كتاب الله "العِشاء"، وإنّها تُعْتِمُ بِـحِلاب الإبلِ". [رواه مسلم]. ومعناه كما قال الـنّوويّ (676ه) أنّ الأعراب يسمونها "العَتَمَةَ" لكونهم يُعْتِمُونَ بِـحِلاب الإبل، أي يؤخّرونه إلى شدّة الظّلام.
***
- الـنّصّ الدّينيّ يرسي أصول مصطلحات عِلميّة
وثـمّة مصطلحات فقهيّة أو أصوليّة أو لغويّة تظهر أصولها في القرآن الكريم أو الحديث الشّريف.
فالقَسَمُ بمعنَيَيه الـنّحويّ والبلاغيّ ملحوظ في الآية التّالية: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}، وفي أمثالها.
وكذلك صيغُ الطّلب قد نجد جذور مصطلحاتها في الآيات القرآنية، فالأمر في الآية: {إنَّـما أَمرُهُ إذا أرادَ شَيئًا أنْ يقولَ لهُ كُنْ فَيَكُونُ}، والنّهي في الآية: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ}، والـتّمنّي في الآية: {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}، والرّجاء في الآية: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ}....
وكذلك النّواسخ الّتي تدخل على المبتدإ والخبر، يظهر معناها الأساسيّ، وهو التّغيير والتّعديل، في الآية: {مَا نَنْسَخْ منْ آيةٍ أو نُنْسِها نأتِ بخيرٍ مِنْها}، وفي الآية: {فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ}.
ونجد مفهوم الاشتقاق ومنطوقه في الحديث القدسيّ: "قال اللهُ تبارَك وتعالى: أنا الرَّحمنُ خلَقْتُ الرَّحِمَ وشقَقْتُ لها اسمًا مِن اسمي، فمَن وصَلها وصَلْتُه ومَن قطَعها بَتَتُّه". [أخرجه أبو داود، والتّرمذيّ، وأحمد].
وفي ذلك قال حسّان بن ثابت (35 أو 40ه) يمدح الـنّبيّ الأكرم عليه الصّلاة والسّلام:
وَشَقَّ لَهُ منَ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ فَذُوْ الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وهذا مُحَمَّدُ
ونجد مصطلحي الفاعل والمفعول به في حديث واحد. قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: "مَنْ وَجَدْتموه يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فاقْتُلوا الفاعِلَ والْمَفْعُولَ بِهِ". [رواه التّرمذيّ وأبو داود وابن ماجه وغيرهم].
وللباحثين أن يستقصوا المزيد.
***
- الـنّصّ الدينيّ زاخر بالتّعريفات
يلي المصطلح في الأهـمّــيّة تعريفه، لأنّه يضع المفهوم الدّقيق للكلمة الاصطلاحيّة، في إطار جامع مانع، يبلغ من الاحتراز ما يزيل الالتباس.
ورد في القرآن تعريف "الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا":{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}، وتعريف "يوم الدّين": {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ}، وتعريف "المطفّفين": {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}...
ونحن أمام طائفة كبيرة من التّعريفات الـنّبويّة، نسردها تاركين للباحثين أن يغوصوا في منهاجها السّديد، ومزاياها العقليّة:
ففي حديث جبريل الطّويل، ورد تعريف الإسلام: "أن تَشْهَدَ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأن محمَّدًا رسولُ الله، وتقيمَ الصَّلاةَ وتُؤتيَ الزّكاةَ، وتَصُومَ رَمَضانَ، وتحجَّ البيتَ إنِ استطَعْتَ إليهِ سَبيلًا"، وورد تعريف الإيمان: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"، وورد تعريف الإحسان: "أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك". [رواه مسلم].
وقال صلّى الله عليه وسلّم: "الـمُسْلِمُ مَن سَلِمَ الـمُسْلِمُونَ مِن لِسانِهِ ويَدِهِ، والـمُهاجِرُ مَن هَجَرَ ما نَهَى اللهُ عنْه". [رواه البخاريّ].
وقال صلّى الله عليه وسلّم: "المهاجرُ من هجر السّوءَ والمجاهدُ من جاهد هواهُ". [رواه التّرمذيّ].
وقال صلّى الله عليه وسلّم: "ليسَ الشَّديدُ بالصُّرَعَةِ ، إنَّما الشَّديدُ الَّذي يملِكُ نفسَه عندَ الغَضبِ". [رواه البخاريّ].
وقال صلّى الله عليه وسلّم: "الإثمُ ما حاك في صدرِك، وكرِهتَ أن يطَّلِعَ عليه النَّاسُ". [رواه مسلم].
وقال صلّى الله عليه وسلّم: "الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ". [رواه مسلم].
وقال صلّى الله عليه وسلّم في تعريف الوَهَن: "حُبُّ الدُّنيا وكراهِيةُ الـمَوْتِ". [رواه أبو داود].
وقال صلّى الله عليه وسلّم في تعريف الرُّوَيْبِضَةُ: "الفُوَيْسِقُ يتَكَلَّمُ في أمرِ العامَّةِ". [رواه الإمام أحمد].
وقال صلّى الله عليه وسلّم: "الكَيِّسُ مَن دان نفسَه وعمِل لما بعدَ الموتِ، والعاجِزُ مَن أتبَع نفسَه هَواها وتمنَّى على اللهِ الأمانِيَّ". [رواه التّرمذيّ].
وقال صلّى الله عليه وسلّم: "ما أسْكرَ كثيرُهُ فقليلُهُ حرامٌ". [رواه الـنَّسائيّ].
وهذا كلّه يدلّ على أنّ الاصطلاح والـتّعريف لم يكونا متأثّرين في نشأتهما بالفلسفة والمنطق، أو بطرائق التّصنيف عند الأعاجم، بل بعثهما القرآن الكريم والحديث الشّريف.
***
- الصّحابة والـتّابعون يتنبّهون إلى قيمة التّعريفات
وحذا الصّحابة والتّابعون حذو نبيهم، صلّى الله عليه وسلم.
نقل الصّالحيّ الشّاميّ (942ه) في "سبل الهدى والرّشاد" قول عليّ بن أبي طالب (40ه) في تعريف التّقوى: "هي الخوف من الجليل، والعمل بالتّنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل".
وذكر أبو البركاتِ الأنباريّ (577ه) في "نزهة الألِبّاء في طبقات الأدباء" أنّ الإمامَ عليًّا كتب نقاطًا عريضةً في الـنّحو لأبي الأسود الدُّؤليّ (69ه) منها تعريفات الاسم والفعل والحرف: "فالاسمُ ما أنبأَ عن الـمُسَمَّى، والفعل ما أُنبِئ به، والحرفُ ما جاء لِـمَعنًى".
ونقل ابن أبي الدُّنيا (281ه) في "الإشراف في منازل الأشراف" قولَ عَمْرو بْنُ الْعَاصِ (43ه) في تعريف العاقل: "لَيْسَ الْعَاقِلُ الَّذِي يَعْرِفُ الْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ وَلَكِنَّهُ الَّذِي يَعْرِفُ خَيْرَ الشَّرَّيْنِ..."
ونقل ابن عبد ربّه (328ه) في "العقد الفريد" أنّ عمرو بن العاص سئل: "ما العقل؟" فقال: "الإِصابَةُ بالظَّنِّ، ومَعرِفَةُ ما يَكُونُ بِـما قد كان".
ونقل ابن الصّلاح (643ه) في "معرفة أنواع علوم الحديث" تعريف سعيد بن الـمُسيِّب (94ه) للصّحابيّ أنّه مَن أقام مع رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، سنة أو سنتين، وغزا معه غزوة أو غزوتين.
وورد في مصنّف ابن أبي شَيْبةَ (235ه) أنّ الحسن البصريّ (110ه) قال: "إنّ الإيمان ليس بالتّحلّي ولا بالتّمنّي، إنّ الإيمان ما وَقَر في القلب وصدّقه العمل".
وقال الإمام أبو حنيفة (150ه) في "الفقه الأكبر": "والإيمان هو التّصديق والإقرار".
أمّا أئمّة المسلمين اللّاحقون، ولا سيما المصنِّفون منهم، فكانوا يبدؤون كلّ مبحث فقهيّ أو كلاميّ بتعريفٍ جامعٍ مانعٍ، كأن يقولوا: كتاب الصّلاة، وهي لغةً: الدّعاء، واصطلاحًا: القيام بأعمال مخصوصة في أوقات مخصوصة...
وكان الشّقيقان الاصطلاح والتّعريف يتناميان مع علم العروض، ومع علم المعاجم، وقد خطّ سبيلهما الخليل بن أحمد الفراهيديّ (170ه)، ثمّ استأثر بعد ذلك علم الحديث بشطر كبير من العناية بالمصطلح، حتّى صارت لفظة "المصطلح" تقترن بعلم الحديث.
ويبدو أنّ أوّل من تطرّق إلى علم مصطلح الحديث هو الإمام الشّافعيّ (204ه) في كتاب "الرّسالة" الّذي ألّفه أساسًا من أجل بيان علم الأصول. وصنّف بعد ذلك أبو بكر الحميديّ (219ه) رسالة في مصطلح الحديث، وبعد أجيال كانت دراسة أبي محمّد الرَّامَهُرْمُزِيّ (360ه) "المحدِّث الفاصل بين الرّاوي والواعي".
ولم تلبث الكتب المتخصّصة في الاصطلاح والتّعريف أن ظهرت مستقلّة بذاتها، مثل "مفاتيح العلوم" للخوارزميّ (387ه)، و"التّعريفات" للشّريف الجرجانيّ (816ه)، و"الكلّيّات" لأبي البقاء الكفويّ (1094ه)....
***
- واجب الأمّة في إطار الاصطلاح والـتّعريف
ما ذكرناه في الأسطر السّابقة لا بدّ أن يبعث فينا العِزّة بـما أملاه الـنّصّ الدّينيّ من منهج عقليّ مُحكَمٍ يشكّل مدرسة فكريّة متكاملة.
ولا بدّ أن يوقِدَ فينا أيضًا الحرص الخالص على المصطلحات الّتي نتفوّه بها، فلا نقول "الخيانة الزّوجيّة" أو "الـمُساكَنة" بدلًا من "الزّنا"، ولا نقول "الفائدة المصرفيّة" بدلًا من "الرّبا"، ولا نقول "الإرهاب" أو "العنف" بدلًا من "الجهاد"، ولا نقول "الاستخدام المفرط للقوّة" بدلًا من "الاعتداء"، ولا نقول "التّطرّف" بدلًا من "الالتزام"...
وقريب من ذلك ما يؤدّي إلى الإلباس حين يقوم بعضهم بترويج تعريفات مضلِّلة توحي بأنّ الإيمان في القلب حصرًا، وأنّ الدّين هو المعاملة فقط.
ولهذا ينبغي العمل بجهود حثيثة لتصويب المفاهيم، انطلاقًا من الاصطلاح القويم والتّعريف السّليم.
قال البشير الإبراهيميّ (1385ه) والقول مُثْبَتٌ في "آثار الإمام محمّد البشير الإبراهيميّ" الّذي جمعه ابنُه: "فإنّ ظلم الكلمات بتغيير دلالتها كظلم الأحياء بتشويه خِلْقتهم، كلاهما مُنْكَرٌ وكلاهما قَبيحٌ، وإنّ هذا النّوع من الظّلم يزيدُ على القبح بأنّه تزوير على الحقيقة، وتغليطٌ للتّاريخ، وتضليل للسّامعين، ويا ويلنا حين نغترُّ بهذه الأسماء الخاطئة..."
اللهمّ أرنا الحقّ حقًّا، وارزقْنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطلًا، وارزقْنا اجتنابَه.
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة