نحن في الزمان المُحمَّديّ؛ فحُقّ لنا أن نحتفل..!
يقول الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [الأعراف:158].
المَولدُ النبويّ الشريفُ كان لحظة خاصّة غايَة الخصوصيَّة في الزمان، كانت جزءًا منه ظاهرًا، ولكنّها استوعبت الزمان بعد ذلك ليكون كلّه خاضعًا لها إلى يوم القيامة.. فيقال عن الزمان بعدها: هذا الزمان المُحمّديّ، الذي يتّسع له الوجود كلّه.. ويقال عن الحبيب الأعظم ﷺ: هذا صاحب الزمان.. ومثل هذا التعبير معروف مألوف عند أهل الدنيا، وفي الحديث عن ملوكها وزعمائها، فيقال: هذا زمان المَلك الفلانيّ والسلطان الفلانيّ.. وبهذا الاعتبار ينتفي الإشكال أصلًا عن وجاهة الاحتفال بالمَولد، وأن يكون في كلّ آن، وهي منتفية باعتبارات كثيرة غير هذا الأمر.. كما ينتفي القيل والقال عن تحديد زمن الولادة ووقتها، ليكونَ الجدلُ فيها غيرَ ذي جدوى.. فنحن نحتفل في الزمان المُحمّديّ المُمتدّ إلى قيام الساعة، وكفى..!
وشتّان بين الزمان المُحمّديّ وزمان أيّ ملك من ملوك الأرض.. ملوك الأرض ليس لهم من نصير دائم، ولا محبّ صادق، سوى عدد من المُنتفعين، الذين يتقلّبون ويتغيّرون، على حسب تقلّب الأهواء والمَصالح.. والزمان المُحمّديّ زمان الحبّ الصادق المُطلق، لمَن رفع الله تعالى له ذكره، وعظّم قدره، وأعلى منزلته، وأوجب طاعته وحبّه، وصلّى عليه وملائكة قدسه، وأمر المُؤمنين بالصلاة والسلام عليه، أمرًا عامًّا لا يقتصر على زمان أو عدد، وجعل ذلك كلّه من أعظم العبادات والقُربات إلى الله.. فأصبح ذكره ﷺ على كلّ لسان، والحديث عنه مفخرة لكلّ إنسان، واسمه الشريف يعتزّ بحمله والتكنّي به المُسلمون على مرّ الزمان..
في الزمان المُحمّديّ يرتفع ذكر الحبيب على المَنائر والمَنابر في شتّى بقاع الأرض، ويكون ذكره تجديدًا للدعوة التي ابتدأها ﷺ، وكأنّه يعلنها للناس في كلّ زمان ومكان مرّة أخرى، كما أعلنها أوّل مرّة: فترتبط دعوة التوحيد لله جلّ جلاله باسم الحبيب الأعظم ﷺ، الذي ضحّى في سبيلها بما لا يخطر على بال بشر.. ولا يمكن لعاقل أن يسمع بالإسلام إلاّ أن يذكر فضلك وجهادك بأبي أنت وأمّي، حتّى من أولئك الذين لا ينتمون إليه.. وأيّ ذكر أعلى من هذا الذكر في العالمين.!؟
يا صَاحِبَ الزمان ودولة الحقيقة التي لا تضارعها دولة، ولا قوّة ولا سلطان..! نحن بك خرجنا من الظلمات إلى النور.. وبك كنّا خير أمّة أخرجت للناس..
وعلى يديك الشريفتين يوم وضعت لَبِنات المَسجد النبويّ.. ويوم عقدت الأخوّة العمليّة بين المُهاجرين والأنصار.. ويوم أعلنت مبادئ العدل وحقوق الإنسان في حجّة الوداع بدأ تاريخ الإنسان العابد لله، وبدأت حضارة الإنسان المُتحرّر من طواغيت الأرض، المُرتبط والمُتعلّق بوحي السماء، فعرفت الإنسانية جيلًا لا كالأجيال، جيلًا حمل الرسالة بعدك، وبلّغ الأمانة، وجاهد في سبيل الله حقّ الجهاد ..
إنّ أطفال الأمّة من عرب وعجم يتغنّون بحبّك يا سيّدي يا رسول الله، وتتدفّق مشاعرهم بالفرح بك، والثناء عليك ..
وإنّ نساء الأمّة يفدينك بمهجهنّ وأرواحهنّ، ويرفعْن رؤوسهنّ معتزّات بشريعتك وهديك، ويقدّمن أبناءهنّ شهداء في سبيل دينك..
وإنّ رجال الأمّة الأحرار يقدّمون الغالي والنفيس لنصرة دينك، والدفاع عن ذاتك واسمك الشريف في العالمين.. ولا عبرة بكلّ خوّان زنيم، وأفّاك أثيم، من عبيد الدرهم والدينار، فهم أجراء غثاء، وكالزبد يذهب جفاء..
يا صَاحِبَ الزمان كلّه.! زمانك لا يقف عند حدود الدنيا الفانية، ولا يقتصر عليها، بل يمتدّ إلى عالم البرزخ، وأنت حيّ في قبرك حياة أكمل وأتمّ من حياتنا، تعرض عليك صلاتنا، وتعرف أعمالنا وأخبارنا، وفي الحديث: عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ المُزَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُحَدِّثُونَ وَيُحَدَّثُ لَكُمْ، فَإِذَا أَنَا مُتُّ كَانَتْ وَفَاتِي خَيْرًا لَكُمْ، تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ فَإِنْ رَأَيْتُ خَيْرًا حَمِدْتُ اللَّهَ، وَإِنْ رَأَيْتُ غَيْرَ ذَلِكَ اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ لَكُمْ». فامتداد والوجود والشهود لصَاحِبِ الزمان ﷺ لا تقف عند هذه الدنيا، ولا تحدّ بها، فهي والبرزخ سواء، وقد جمع الله تعالى له بين الدنيا والآخرة في حياته بمعجزتي الإسراء والمِعراج، ليدلّ فيما يدلّ على أنّه ﷺ صاحب الزمان المُمتدّ من الدنيا إلى الآخرة، لم يسبقه في ذلك سابق، ولا ينازعه منازع؛ كيف وهو المَبعوث ﷺ رحمة للعالمين، ورسالته للثقلين، وقد صلّى بالأنبياء إمامًا في بيت المَقدس والمَسجد الأقصى.. ويوم القيامة له لواء الحمد والمَقام المَحمود، والشفاعة العظمى في الأوّلين والآخرين.. فمن يكون سواه صاحب الزمان.؟!
والله تعالى جلّ في علاه شهد له ﷺ بما يدلّ على شمول النور المُحمّديّ لأرجاء الكون: بأرضه وسمائه، وفضائه وأفلاكه، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} [الأحزاب:45ــ46] .
وسمّاه الله نورًا مبينًا، فقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}[المائدة:15ــ16]، إنّه سراج منير لكلّ ظلمة بلا استثناء، ونور محض مبين لكلّ الظلمات، لا يعتريه غبش ولا كسوف، كيف وهو من نُور الله جلّ جلاله، والله نور السموات والأرض.. هو نُورٌ بذاته لا بحقيقته، فحقيقته بشريّة لا ينازع فيها أحد.. وهو نُورٌ بصفاته وأخلاقه، التي شهد الله له بها أعظم شهادة: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:4]، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ}[آل عمران:159]. وهو نُورٌ بسنّته وهديه.. وهو نُورٌ وشريعته، التي نسخت كلّ الكتب والشرائع، وهو نُورٌ بكتابه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وإنّ من أوضح الأدلّة على أنّ النبيّ ﷺ هو صاحب الزمَان كلّه قول الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]. إذ إنَّ الإنسَان لا يتصوّر وجوده إلاّ في حيّز الزمَان والمَكان، وكونُ النبيّ ﷺ مُرسلًا للناس جميعًا فهذا بمُقتضَى اللزومِ يشمل الزمَان كلّه إلى قيام الساعة، وَيقتضي الفرح به ﷺ في كلّ وقت وآن، لا الاقتصار على وَقت دون وقت .
فيا أيّها المُحبّون لله ورسوله ﷺ في كلّ مكان خطأ كبير أن تقصروا فرحكم برسول الله ﷺ على لمحة من الزمان كلّ عام، فيكون خطأكم في الفهم لا يغفره لكم حسن النيّة، ولا حسن الفعل.. إذ خطأ الفهم تتّصل به جملة نقائص لا تقف عند حدّ، وتتنافى مع حقوق المُصطفى ﷺ، ولا ينبغي لمُسلم أن يقع فيها..!
اللهم صلِّ وسلّم وبارك على سيّدنا مُحمّد في الأوّلين، وصلِّ وسلّم وبارك على سيّدنا مُحمّد في الآخرين، وصَلِّ وسلّم وبارك على سيّدنا مُحمّد في المَلأ الأعلى إلى يوم الدين، وصلِّ وسلّم وبارك على سيّدنا مُحمّد كلّما ذكركَ الذاكرون، وغَفلَ عن ذكرك الغافلون، وصلِّ وسلّم وبارك على سيّدنا مُحمّد في كلّ وقتٍ وحين، واملأ قلوبَنا بحبّه، وأوردنا حوضَه، وأكرمنا بشفاعتِه، وارفعنا عندكَ معه في علّيّين، برحمتكَ يا أرحمَ الراحمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
الكلمات الدالة : ذكرى المولد حب دعوة ذكرى المولد الشريف احتفال مولد النبي محمد محمد صلى الله عليه وسلم
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
أثر تغيير الأسماء والمفاهيم.. في فساد الدنيا والدين!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!