يفتقر الغرب في كثير من مقولاته الفكريّة إلى المنهج العلميّ الموضوعيّ، وإن أطلق في الأثير فقاعات صابون كبيرة مضلِّلة، يحسبها بالونات حراريّة. وهذا في واقع الأمر انعكاس لمسار سياسيّ يجتزئ الوقائع، وينتهزها لمآربه الاستعماريّة الخاصّة، حتّى إذا برزت وقائع تخالف هذه المآرب، تأوّلها، أو أنكرها، أو عمِل على طمس وثائقها، قبل أن تصل إلى عيون المنصفين، وأيادي النُّزهاءِ.
والغريب أنّ مفكّري هذا الغربِ الّذين أعلنوا منذ قرونٍ إنهاء سيطرةِ السّلطة الرّوحيّة على عقولهم، وجهروا بفصل الفكر والحياة عن الدّين، لا يملكون في كثير من نظرياتهم أن يتحرّروا من الإرث اليهوديّ في التّوارة، وإذا بهم يُحلّون نصوصها محلّ القداسة المطلقة، ويَرقَون بها إلى مصافّ الـنّقوش التّاريخيّة في إثباتِ أحداث الماضي السّحيق!
ومن هذه النّظريّات بِدعة اللّغات السّاميّة، الّتي بدأها العالم الألمانيّ أوغست شلوتزير (1809م) في مقال له عن الكلدانيّين عام 1781م، وعنوانه "فهرس الأدب التّوراتيّ والشّرقيّ"، كأنّ الأدب "التّوراتيّ" ليس شرقيًّا. وتابعه على ذلك الألمانيّ يوهان إيكهورن (1827م). وقد استندا إلى نصّ الـتّوراة الّذي يتحدّث عن ثلاثة أبناء لنوح، عليه السّلام، وهم سام (والد أبناء الشّام والجزيرة والعراق) ويافث (والد الأوروبيّين الآريّين) وحام (والد الأفارقة السّود)، ورَأَيَا أنّ كلًّا من هؤلاء الإخوة تميّز نسلُه بلغة مختلفة، ثمَّ تفرّعت لغاتٍ عبر الأجيال والقرون اللّاحقة.
والـنّصّ في سفر التّكوين، الأصحاح التّاسع: "وشرب [نوح] من الخمر، فسكر، وتعرّى داخل خبائه. فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه، وأخبر أخويه خارجًا. فأخذ سام ويافث الرّداء، ووضعاه على كتفيهما، ومشيا إلى الوراء، وسترا عورة أبيهما، ووجْهاهُما إلى الوراء، فلم يبصرا عورة أبيهما. فلمّا استيقظ نوح من خمره، علم ما فعل به ابنه الصّغير، فقال: ملعونٌ كنعان [بن حام]، عَبْدَ العبيدِ يكونُ لإخوتِه. وقال: مبارَكٌ الرّبُّ إلهُ سام، وليكن كنعانُ عبدًا لهم. ليفتحِ الله ليافث فيسكن في مساكن سام، وليكن كنعانُ عبدًا لهم."
وهذا الـنّصّ لا يستقيم، إذ كيف يقبل العقل الحصيف أنّ نبيًّا يسكر، ويتعرّى، ثمّ يلقي باللّائمة على ابنه الّذي رأى عورته من دون تعمّد؟ وما ذنب أولاد حام، إن صحّ أنّه مخطئ، كي يتحمّلوا عبر عشرات القرون جريرة أبيهم؟
وفي هذا الصدد أيضًا، يقول ليو تاكسل (1907م) في كتابه "التّوراة كتاب مقدَّس أم جمع من الأساطير؟": "... يتّفق اللّاهوتيّون على أن نوحًا أعطى آسيا الصّفراء لـ"سام"، وأوروبا البيضاء لـ"يافث"، وأفريقيا السّوداء لـ"حام". فولد كنعانُ وحام الزُّنوجَ والملوَّنين. لذلك ينبغي أن تكون ذريّتهما عبيدًا للأوروبيّين. لكنَّ السّؤال: كيف أصبح أبناء نوح الثّلاثة مؤسّسين لـثلاثة أعراق مختلفة، وهم المولودون من أب واحد، وأمّ واحدة؟"
ونحن نجد علماءنا أجرأ في تعقّب هذه الأسطورة وإثبات بطلانها. فالحديث الّذي يروي أنّ أولاد نوح ثلاثةً: سام وحام ويافث، تعقّبه المحدّثون، وأظهروا ضعفه، ولا سيّما أنّ تفاصيل البيئة الجغرافيّة الّتي حظي بها كلّ ولد جاءت متضاربة، تثبت فساد الأصل.
وإذا تركنا هذا، وذهبنا إلى الشّقّ المرتبط بالتّاريخ اللّغويّ، تجلّت أسئلة كبيرة لا تُدفَع:
فلماذا ستكون لغة سام مخالفة للغتي أخويه؟ وهل أثبت التّاريخ أصلًا أنّهم تفرّقوا في البلاد؟ وما شأن لغة نوح؟
وإذا عدنا إلى حادثة الطّوفان، فهل ثبتت الآراء الّتي تقول إنّ الأرض كلّها غرقت، ولم يبق إلّا من كانوا في سفينة نوح؟ هذه الآراء تعارضها اجتهادات أخرى في سياقات الـنّصوص الدّينيّة نفسها! وهذا يعني أنّ الأرض الّتي لم يشملها الغرق كانت فيها لغات، فأين هي من نظرية لغات أبناء نوح؟ ما مصير شعوب شمال أفريقيا؟ وما مصير شعوب أستراليا؟ وما مصير الهنود الحمر؟ من أين تأتّت لهم لغاتهم؟ هذا يثبت أنّ الـنّظرية عرجاء، بل شلّاء.
والأسطورة تزداد إمعانًا في الخرافة حين يتنطّع بعض الباحثين قائلين إنّ العبريّة أصل اللّغات السّاميّة، ويتنطّع آخرون قائلين إنّ الآراميّة أصل هذه اللّغات!
أمّا العبريّة فثمّة أقوال كثيرة تتبنّى أنّ موطن أهلها الأصليّ كان جزيرة العرب، ومن هنا كان كتاب المؤرّخ اللّبنانيّ كمال الصّليبيّ (2011م) "الـتّوراة جاءَت من جزيرة العرب"، وكتاب الباحث اللّبنانيّ المعاصر الدّكتور لطيف إلياس لطيف "لبنان الـتّوراتيّ في اليمن"...
والآراميّة هاجرت قبائلها من الجزيرة أيضًا إلى أرض بابل وآشور بين القرنين الرّابع عشر والثّاني عشر قبل الميلاد، وتمدّدتْ في بلاد العراق وبلاد الشّام، على نحو ما يقول د.إسرائيل ولفنسون (1980م) في "تاريخ اللّغات السّاميّة". وهذا يعني أنّها انبثقت من رحم اللّغة العربيّة القديمة، ولكنّها حين تفرّدت بخصائص لم تنشط في البيئة العربيّة الأمّ، شبه الجزيرة، حتّى تضفي على اللّغة العربيّة شيئًا من التّأثير، أو لنقل إنّ هذا الـتّأثير ليس له ما يؤكّده.
ثمّ نقول: لقد رجّح الفرنسيّ إرنست رينان (1892م) في كتابه "تاريخ اللّغات السّاميّة"، والألماني كارل بروكلمان (1956م) في كتابه "اللّغويّات السّاميّة"، أنّ الموطن الأوّل للشّعب السّاميّ هو القسم الجنوبيّ الغربيّ من شبه الجزيرة العربيّة، فلماذا لا توصف اللّغات السّاميّة بأنّها اللّغات العربيّة؟
وعلاوة على ذلك، يرى العلامة جوستوس أولسهوزن (1882م) في مقدّمة كتاب له عن العبريّة أنّ العربيّة هي أقدم اللّغات السّاميّة، وقد وافقه آخرون كما أفاد الدّكتور صبحي الصّالح (1986م) في كتابه "دراسات في فقه اللّغة". وقد استفاض في ذلك عبد الرّحمن البورينيّ في "اللّغة العربيّة أصل اللّغات كلّها"، والدّكتورة باكرة رفيق حلمي في "لغات الجزيرة العربيّة أمّ اللّغات السّاميّة".
وفي الخلاصة، نحن نرى أنّ علماء الآثار والـنّقوش، ودارسي الحضارات المشرقيّة القديمة في المنطقة العربيّة، كلّما اكتشفوا شيئًا ابتكروا له وصفًا غريبًا ينأون به عن أن تكون فيه سمة العربيّة. ولذلك نتوجّه إلى الّذين ما زالوا يردّدون مصطلح اللّغات السّاميّة أن يستبدلوا به مصطلح اللّغات العربيّة، مطّرحين كلّ ما تسوّقه قنوات الصّهيونيّة، ولا سيّما أنّ اللّغة هي دومًا وجه الحضارة، وبوّابة الـتّراث، وعنوان الأصالة، وسِراجُ الانتماء.
هرطقة اللّغات السّاميّة
القول الفصل.. بين الظلم والعدل!
الأُسرة السوريّة خارج القضبان
هل انتصرت سوريا أم انتصر أعداؤها؟
ما الذي يحدث اليوم في سورية؟