وجوه النفاق.. في الدين والحياة

لقد كان للنفاق وما يتفرّع عنه من نيّةٍ وقولٍ وعملٍ عند أصحابه من أصول وفروع الحيِّزُ الأكبرُ في الحديث الديني بكلِّ مراجعه، وأوّلها الكتاب والسُّنَّة مصدرَيِ التشريع الكبرى، وذلك لأنّ النفاق أعظم أثرًا على الأمة حتى من الكفر نفسه. وذلك نجده في تقدّم ذكر النفاق والمنافقين حتى على ذكر الكفار والكافرين. فهناك أوّلًا في سورة البقرة بعض صفات المتّقين في آيتين متتابعتين وبعدها آيتين عن الكافرين وبعدها عن المنافقين في أكثر من عشر آيات متوالية، وهناك سورة سُمِّيت بالفاضحة وهي سوره التوبة والتي كشفت جميع عوار النفاق وأهله في مواقف الجهاد والقتال مع رسول الله وفي بناء مسجد مضاهٍ لمسجد المؤمنين وهو مسجد ضرار والذي أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام بهدمه فهو مسجد لم يُبْنَ على التقوى بل على النفاق. والله تعالى قال في ذلك الموقف: ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ۚ لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾[ سورة التوبة108].
إضافة إلى ما جاء من نهي من الله لرسوله عن الصلاة على رأس المنافقين عبدالله بن أُبَيْ بن أبي سلول ومن هم من نسيجه من المنافقين قال تعالى: ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ ۖ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [ التوبة84]. ونزلت سورة تحمل اسم القوم 'المنافقون' وليس ذلك تمجيدًا لهم بحمل اسمهم السورة الكريمة بل تشهيرًا وتعريفًا بما يحملون من أوجه النفاق وأولها أنهم يقولون ما قاله الله عنهم: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون1]، فشهادتهم أحقّ أم شهادة مَن يعلم سرَّهم ونجواهم. ومن ثم هم الذين شهدوا تلك الشهادة الكاذبة يقولون ما أخبره القرآن عنهم: ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّوا ۗ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ﴾[ المنافقون: 7]. وقد أخبرت السورة على سِمَة وعلامة يتميّز بها القوم لِمَن يراهم وهي في قوله تعالى عنهم: ﴿۞ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ﴾[ المنافقون4].
وما ذكرناه من كتاب الله في حقّ المنافقين كان غيض من فيض من الصفات التي وُصِفوا بها وكانت بمثابه علامات يُعرفون من خلالها ويتميّزون عن كلِّ من عداهم بها وذلك في آيات متفرِّقة من السور القرآنية، وذلك نجده في الحديث عن صفة الصلاة التي يؤدّونها لقصد إثبات إيمانهم الكاذب والذي يعرف نفاق أهله من خلال ما وصفهم الله به: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾[ النساء142]. ولو انتقلنا إلى الحديث الشريف وما حدث به عن المنافقين فيتصدر حديث لا يخفى على العوام قبل الخواص من المسلمين وهو 'آيةُ المُنافِقِ ثلاثٌ: إذا حدَّثَ كذَبَ، وإذا وعَدَ أخلَفَ، وإذا ائْتُمِنَ خان'. وهذا الحديث يتعدّى في معانيه ومقاصده جانبًا واحدًا من المنافقين الذين هم في أعلى السُّلَّم إلى أدناهم. ذلك أنّ هذه الصفات المذمومة الثلاث يقع فيها الكثير من المسلمين ضعاف الإيمان وممَّن لم يتغلغل النفاق الكلّي إلى عقولهم وقلوبهم ولكنّهم على درجة من النفاق وأهله. وكأنّ مُراد الحديث تبيان صفات يُعرف بها المنافق إذا ما وقع بها أحد أيًّا كان ولذا كان الحديث والوعد والعهد كما في حديث آخر يضاف إليه وإذا عاهد غدر كلّه يجعل النفاق من أقبح الصفات وأشدّها خطرًا في حياة الأمَّة.
ولكن هل هذا هو النفاق بكُلِّيّته أم أنّ له وجوهًا عِدَّة غير ظاهرة في الدين والحياة؟ أحببْتُ أن أسلِّط الضوء عليها وأحسب أنّها تندرج في اسمين اثنين الأول باطن الإثم في حياه المسلمين، والثاني النفاق العملي الذي يجري في حياة الناس كجري النار في الهشيم، والذي يمكن أن يتصدّره مَن هم في موقع الحكم والقيادة ومَن هم في موقع الفتوى والأمارة الدينية. فأما باطن الإثم الذي نعيشه والذي هو وجه من وجوه النفاق المستتر نجده على أرض الواقع في ذلك الانفصال ما بين الظاهر والباطن فالناس أصبحت تجد ذلك الواقع المتناقض بين الأقوال والأفعال، بين العبادات والعادات، بين التمسّك بكثير من العبادات المتمّمة للسُّنَن والحرص عليها وترك من يقودون الأمّة إلى الحضيض ممّن هم في موقع القيادة والسلطة تحت زعم {وَأطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُم} وتحت شعار دعوا السياسة لأهلها ولنهتمَّ بما يهمُّ المسلم من فروض وواجبات في دينه. وكلّ ذلك التهاون والخنوع عند من يُسمّون بالدعاة في كثير من بلاد المسلمين إلى تمجيد الباطل الذي يراه الحاكم حقًّا ودفع بالكثير منهم إلى لَيِّ النصوص وتسخيرها لصالح حكّامهم بدعوى هم أدرى بما يصلح لنا، فمَرّ على الأمة منهم أصحاب النفاق العملي مَن سخَّر النصوص القرآنية لمجاراة معاهدة السلام مع اليهود الغاصبين في مصر بلد الأزهر واستعانوا بظاهر الآية الكريمة {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسِّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى الله}. وأمّا آيات الجهاد فلها حساب آخر لا وقت له الآن. وجاء من بعدهم من أفتى بجواز دخول الكفار إلى بلاد المسلمين واحتلالها نصرة لدولة عربية تمّ احتلالها وهي الكويت، ومع كلّ ما ينبغي قوله من إنكار احتلال بلد قوي لبلد ضعيف يجمعهما الإسلام والعروبة، فإنّ كلّ ذلك لا يدفع إلى إصدار الفتاوى التي تجيز إحراق بلد مسلم كبير كالعراق وجعله حقل تجارب لكلّ أنواع أسلحة الدمار الشامل بيَدِ أعداء الإسلام من اليهود والصليبيين، والغريب أنّ أحد دعاة هذه الدولة العربية قصدت بها دولة الكويت يسمعه الناس على وسائل التواصل الاجتماعي يقول: 'إنه لا مانع من إعطاء الأرض في فلسطين وغزة لليهود وخروج أهلها إلى أستراليا وغيرها'. وبرّر نفاقه في القول: 'الأرض أهمُّ أم العبادة؟'. طبعًا العبادة أهم، إذًا يمكن التنازل بزعمه عن أرض باركها الله وفيها مسرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفيها مهد النبوءات والرسالات والانتقال إلى بلاد لا يذكر اسم الله فيها ويحكمها الصلبان والأوثان. فهل بعد هذا النفاق من نفاق أكبر منه؟ إذا كان الأمر كما يقول هذا الرجل المتستِّر بلباس الدعاة فلما حشدت بلاده أساطيل العالم لإخراج العراق منها؟ وهل هي أعزُّ عندهم من أرض الرباط التي أعزها الله ولا عزَّة بعد عزَّته.
وإذا انتقلنا إلى بعض وجوه النفاق العملي المتلبِّس بلباس الدين فنجد جمع لا يُستهان به من الذين اشتغلوا بإنكار السُّنَّة والاكتفاء بالكتاب بحجّة التحريف بكثير من الأحاديث وكثرة التأويل فيها معتمدين على التجزئة في النص والاقتطاع منه ما يناسب هواهم وما يكاد يطيح بالعقل والدين معًا ما سمعته بلسان عالِم أزهري يقول: 'إنّ فرعون ليس من المؤكَّد أنه من أصحاب النار لأنّ الأمر غيبيٌّ وعلمه عند الله واحتجَّ بالآية {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} وأنه لم يقل بجسدك، وهناك فرق بين البدن والجسد' حسب قوله. وحسب قولي لا فرق بين مَن يقول هذا القول وبين فرعون وجنوده وهذا الرجل واحد من جند فرعون المعاصرين. ويبقى لنا أن نقول إنّ النفاق قد استلّ سيفه الغادر ودخل حياة الأمة بطولها وعرضها وجعل الباطل حقًّا والحقّ باطلًا وألْبَسَ على الناس دينهم من شياطين الإنس أكثر بكثير ممّا ألبسه الشيطان الرجيم نفسه. نسأل الله السلامة في القول والعمل والإخلاص فيهما. والحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
وجوه النفاق.. في الدين والحياة
تأثير التنمُّر على نفسيّة الطفل
أشرَق الأمل... وعاد الحقُّ إلى أهله
جواب العلم والدين.. لما تعارض عن يقين! الجزء الثالث
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء الخامس