ما الذي بدل هذا الجيل؟
لو سألتَ أي مربٍّ: "ما أسباب فساد الجيل؟"، لجاءتك هذه الإجابة: "بسبب العولمة، وبما تَبُثه وسائل الإعلام والفضائيات من الفساد، وبسبب الإنترنت والتكنولوجيا الحديثة، وأصدقاء السوء"، وربما هذا التعليل منطقي وواقعي ومريح للأمهات المقصِّرات!
على أن لي وجهة نظر أخرى: "(وسائل الإعلام والفضائيات والنت والأصدقاء) تأتينا من خارج بيوتنا، ولو تحصَّن أبناؤنا ضدها لَمَا أصابتهم بشرورها"، وأوضِّح أكثر: "لو وُلِد ابني بعاهة كالعمى أو الصمم ما أمكنني علاجه إلا بمعجزة، أما لو وُلِد سليمًا ثم عطس مريض في وجهه هل يُصاب حتمًا بالعدوى؟
بالطبع لا يصاب بها قطعًا، وإنما حسب كمية الجراثيم التي دخلت جسمه ودرجة استجابة بِنْيته لما أصابه، وقدرة جهازه المناعي على الصمود والمقاومة".
وإن (وسائل الإعلام والفضائيات والنت) مُفسدة وضارة، ولكنها - في رأيي - السبب "غير المباشر" لتمرُّد الأبناء وتغيُّرهم، ولم تكن أبدًا السبب الرئيسي لتغير هذا الجيل.
وإذا لم تكن (وسائل الإعلام والفضائيات والنت) السبب الرئيسي في خروج الأبناء عن السيطرة، فمن المسؤول؟ وكيف تغيَّر الجيل؟
إن الذي غيَّر هذا الجيل وبدَّله وأخرجه عن السيطرة هو نحن المربين! إذ تغيَّرت قِيمُنا ونظرتنا لعملية التربية، وتبدَّل سلوكنا مع الصغار؛ تركناهم على سجيَّتهم، ولم نُلقِّنهم الآداب، وأهملنا تربيتهم، فتغيروا وتطاولوا علينا!
ولتَصدُق كلُّ أمٍّ نفسَها ولتُجِبْ عما يلي: هل أعرف جيدًا شخصيات أولادي، هل أدرك عيوبهم وألمس مزاياهم؟ هل أصلح السيئة وأثبت الحسنة في سلوكهم؟ هل أنا قدوة صالحة لهم؟ هل أربِّيهم على تقوى الله وحُسْن الخلق؟ هل أوجِّههم كلما استدعى الأمر؟ هل أنا على عِلم بما يفعلونه وهم بعيدون عني؟ هل أعرف اتجاه وفِكرَ ودين أصحابهم؟ هل أعطيهم من فكري ووقتي بقدر حاجتهم؟
وما دامت الأمهات تتَّهِم (وسائل الإعلام والفضائيات والنت)، فإني لأتساءل: "هل تُحارِب الأم هذا الدخيل الجديد؟ هل تتحايل عليه لتُخلِّص أولادها من شروره؟ هل تعطيهم جرعات وقائية ضده؟".
أكثر الناس اعتبروا (وسائل الإعلام والفضائيات والنت) شرًّا لا بد منه، ومما عمَّت به البلوى، فتركوا أولادَهم في رعايته، واستسلموا لتأثيراته، وعاشوا حياتهم معتمدين على القول: "هذا الجيل متميِّز ومختلف، ولا يمكن قياده، وقد خرَج كليًّا عن السيطرة"!
إذًا الأسباب الرئيسية والمباشرة لتغيُّر الجيل جاءت من داخل بيوتنا، "نحن - الآباء والأمهات - تغيَّرت مفاهيمنا فقصَّرنا في واجباتنا، فسمحنا للسوء بالفشوِّ في أبنائنا".
وهناك عاملان رئيسيان لتبدل الجيل:
أولاً: تأجُّج عواطف الوالدين!
إذ تزايدت فجأة العاطفة من الآباء والأمهات تُجاه الأبناء، الأمر الذي أخَّر نضوج الأبناء وجعلهم اتكاليين، فطال أمدُ رعايتهم وكَبُرت مسؤوليتهم عن طاقة الآباء.
فكيف سنقنع الأمهات بأن يكنَّ قويات حازمات؟! وكم أفسدت الوالدات (وكذلك بعض الآباء) أولادَهن بالدَّلال والحرص الزائد، والأم التي تحب ولدها حقيقة تأخذ على يديه ليكون كما يحب الله ورسوله في دينه وخُلُقه، وتُساعِده ليَهابها ويحترمها ويكون بارًّا بها؛ لأن هذا الأصلح له في الدنيا والآخرة.
أيتها الأمهات، "العاطفة" لا تتعارَض مع "الحزم":
• "العاطفة": إشفاق وحب ورعاية وحماية، وتقدير لنفسيَّة الطفل واهتمام بحاجاته.
• و"الحزم": هو تنفيذ لمجموعة (أوامر ونواهٍ) سبقت دراستها، والهدف منها توجيه الطفل إلى الخير والفضائل، ومنعه عما يَضرُّه (سواء في بدنه أو دينه وخُلُقه).
فأين التعارض؟
و"تأجج عاطفة الوالدين" أفرز ما يلي:
• اللين والرعاية الفائقة فبعد الشدَّة التي رُبينا عليها، صِرنا نخاف على أبنائنا من تأثيرات القسوة، وصرنا نخشى عليهم حتى من العوارض الطبيعية كالجوع والنعاس، فنُطعِمهم زيادة، ونتركهم كسالى نائمين، ولا نُوقِظهم للصلاة، ولا نُحمِّلهم المسؤولية شفقة عليهم، ونقوم بكل الأعمال عنهم، ونشتري نحن لوازمهم، ونجهِّزها لتكون بخدمتهم، ونحضِّرها لما بين أيديهم، ونهيئ سُبُلَ الراحة لهم، ونُقلق نومنا لنوقظهم في المواعيد التي يحبونها، (وكل ابن يختار الساعة التي تحلو له، والأم تلتزم بهذا الابن الذي سيدرس الثالثة منتصف الليل، والثاني الذي يريد الاستيقاظ للصلاة، والثالث الذي يفضِّل الاستيقاظ مع موعد المدرسة وهكذا)، فأي تربية هذه؟ وما ذنبنا نحن؟ لنَحمِل مسؤوليتنا ومسؤوليتهم، ألسنا بشرًا مِثلهم، ولنا قدرات وطاقات محدودة؟
إننا نربي أبناءنا على الاتكال علينا، بالإضافة إلى الأنانية؛ إذ ليس من العدل قيام الأم بواجبات الأبناء جميعًا، وهم قعود ينظرون! فلكل نصيب من المسؤولية، والله جعل أبناءنا عزوة لنا، وأمرهم بالإحسان إلينا، فعكسنا الآية وصِرنا نحن الذين نَبَرُّهم ونستعطِفهم ليرضوا عنا!
ولأن دَلالنا للأبناء زاد عن حده انقلب إلى ضده، وصار أبناؤنا لا يقدروننا ولا يمتنون لتضحياتنا، ويطلبون المزيد من عطائنا! فهذه التربية تُفقِد الابن الإحساس بالآخرين (ومنهم أنت أمه)، ولن يجد بأسًا بالراحة على حسابك، و"سعادته مقابل تعاستك" ستصبح تحصيل حاصل، ولن يبالي بتعبك، وسيصبح الجحود والنكران وعدم الوفاء لفضلك قاب قوسين أو أدنى منه.
فاحذري، وراجعي نفسك، وفكري، ما المشكلة لو تحمَّل صغيرك المسؤولية، ماذا لو عمِل وأنجز؟ أليس فخرًا لك وله، فلماذا تحرمينه هذا الشرف؟! وافترضي أنه "شعر بالمعاناة وتألَّم"، ما الضير؟ فالدنيا دار كدٍّ وكدر، ولا مفرَّ من الشقاء فيها ليفوز وينجح.
• نُخفي عنهم همومنا الكبرى، ولا نطلب مساندتهم رأفة ورحمة بهم، فتشغَلهم الأشياء الصغيرة التافهة، وما الضير لو عرف الصغير بمرض والده، أو إفلاس شركته، دعيه يتحمَّل معكم فيَنضَج، وليبقَ فردًا منكم وفيكم، وليُهِمه أمركم ولينتمِ إليكم، وإذًا لا يستقل بنفسه ولا يخرج عن السيطرة.
اسمعي الأخبار ودعيه يسمع معك، احكي له عن مصائب الأهل والجيران والمسلمين والناس، واسردي له القصص الواقعية التي يَسلَم فيها الصادق وينجو التقي، والتي يأتي فيها الفرج بعد الشدة، تَكبر مداركه ويَنضَج تفكيره ويترك العبث، ويتفاعل مع مشاعر الناس وأحوال الدنيا.
ثانيًا- ضعف شخصية المربي:
ومن قديم كانت شخصية بعض المربين ضعيفة، ولكن الجو العام كان يساعد على التوجيه السليم، وكان الآباء يتقبَّلون القسوة على الأبناء مقابل صقلهم ليصيروا رجالاً محترمين، والآن وضْع المربِّي تغيَّر من عدة وجوه:
• يَترك الطفل على طبيعته دون توجيه لكيلا يتأثَّر نفسيًّا ويتعقَّد؟! وهكذا رأت مدارس التربية الحديثة، وأي مصيبة جاءتنا من وراء رؤيتهم العوجاء تلك؛ إذ صار الآباء يتساهلون تُجاه أخطاء الصغير، ويستصغرون كل سلوك (فيأكل بيده الشمال، ويستعمل أغراض الآخرين بلا إذن، ولا يهتم أثناء لعبه، ولو أصابت الكرة النوافذ أو رؤوس الآخرين)، والآباء يظنون أنهم يُربون بطريقة عصرية مدروسة، وتراهم ينظرون وينتظرون اليوم الذي سيكبر فيه الصغير ويَكُف وحده عن هذه الأعمال!
أيتها الأم، ريثما يَكبَر ابنك تكون العادات السيئة قد تأصَّلت فيه! ولا سبيل لتغييره، ويكون قد استقرَّ على طريقة محددة، فربِّيه من صغره، ازجريه، خذي على يده إذا أخطأ.
ولا ضير من ترك طفلك على طبيعته حين تكون فطرته سليمة (لا فيها عدوان ولا إيذاء)، أما إذا مالت أو حادت فلا تسكتي عنه أبدًا.
• يقول الكلمة ويمضي ولا يهتم بالتنفيذ: تقولين: "لن أسمح لك بأكل الحلوى قبل الطعام"، ثم يأكل الحلوى وأمه تنظر وتضحك، فإذا كنت غير جادة وغير مهتمة بانصياع الابن، فلماذا تُصدرين الأوامر والنواهي، وتقولين كلامًا ولا تطبِّقينه؟
والكلمة المطلوب تنفيذها من الصغير على نوعين:
أ- أوامر آنية سريعة: "ناولني، اشترِ لي، نادِ فلانًا"، وحين تطلبينها منه قوليها بطريقة الأمر المحتم: "أعطني منديلاً"، ليَفهم أنك جادة، وإذا لم يَمتثِل كرري الطلب بنفس الجدية، ولا تحضري المنديل بنفسك.
ب- قوانين عامة للبيت تُطبَّق دائمًا، ويجب أن يتقيَّد ابنك بما يُهِمك من "القوانين"، مثلاً لو نهيتيه عن القفز على الأريكة وقفز، ماذا تفعلين؟ لا تتركيه يعصي الأوامر ولا تضحكي ولا تعلقي بأي كلمة، فقط اهمسي باسمه وأنت مُقطبة الجبين، اقتربي منه بهدوء وانظري إليه بطريقة جادة تُخيفه، ولتكن نبرتك راعبة وحاسمة، وقولي: "توقَّف عن القفز"، ثلاث كلمات فقط، وسترين كيف سيتوقف.
• لا تتهاوني في التنفيذ فيخرج الابن عن السيطرة، ولو كان ضعف الوالدين خارجًا عن إرادتهم لقَبِلنا به، ولكني أرى النساء سعيدات بذكائهن وقدرتهن على الكيد لبعضهن بعضًا، ويتباهين بتطويع أزواجهن، ويُخطِّطن للفوز بكل مأثرة، ثم يعجزن أمام طفل صغير؟!
ومن أجل ذلك قالوا (على سبيل الفكاهة): "الأبناء يحكمون العالم"؛ فالأم تحكم الأب، والابن يَحكُم الأم، فصار الأب والأسرة كلها طوعًا للابن! فاحذري تسلَمي.
• لا يُعاقِب: فيتهدد ويتوعد ويرعد ويزبد ثم لا يفعل شيئًا، والحقيقة أن الابن بحاجة للعقاب في بعض الأوقات، بل وأقسى أنواع العقاب، وكثير من الأهل امتنعوا تمامًا عن ضرب أبنائهم، مع أن الضرب يلزَم أحيانًا.
العقاب هدفه الإصلاح، وهو ضرورة تُقدَّر بقدرها، وتتدرَّج حسب الحاجة مع الحذر والأناة، على أننا لا نلجأ إلى إيلام الطفل إلا بعد استعمال كافة الوسائل الأخرى: يتكرَّر الخطأ من الصغير، فنذكِّره بالقانون ونلجأ للنهي، ثم تَكرار النهي، فإن عاد الصغير للخطأ بعد إدراكه لاستيائنا وعن سابق قصد نحذِّره من مغبَّة المخالفة، ونلجأ إلى التهديد، فالهدف من العقاب إعادة الطفل للسلوك الصحيح، وزجره عن الانحراف.
والعقاب له أشكال: "الكلام القاسي" الذي يوضِّح حجم الذنب، ويبدي تذمُّر الأم من سلوك طفلها، و"الإهمال" فلا تكلِّميه لمدة يوم، و"الحرمان" فلا تحضري لوازمه، و"التجاهل" يسألك فلا تجيبي ويُكلِّمك فلا تلتفتي إليه، وكأنك لم تسمعيه.
إن تأجُّج عاطفة المربين وضعف شخصياتهم بدَّل الجيل، ثم انضافت إليهما عوامل أخرى وأخطاء جسيمة، وأدَّت إلى ما هو أسوأ وأخطر وأفظع: "خروج الجيل عن السيطرة".
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة