... ثم قررت أخيراً بعد معاناة دامت سنوات طويلة! قررت أن تقطع تلك الشجرة، ومن جذورها. فقد ذاقت من ثمارها مُراً وحسداً وغَيْرة وهمّاً ووجعاً.
نزعتها من فوق الجدار الذي تزينه، ونظرت إليها نظرة أخيرة قبل أن ترميها على الأرض لتتحطم! وقبل أن تفعل، سمعت من يقول:
_ لا، لا تفعلي.. أتظنين نفسك قادرة يا هذه على العيش دون عائلة أو أقارب؟ دون أهلك وأحبابك ومَن يشاركونك في أبيك وأمك وجدّك ونسبك؟ أتظنين أنك لا ولن تحتاجيهم؟ ستحتاجينهم يوماً.. ستحتاجين الأخ والأخت والجَدّ والجَدّة والعم والعمة والخال والخالة.. ستريدينهم في الفرحة والمصاب، ستريدينهم في ضَعفك نصراً وفي قوَّتك مشاركة.. إنْ أنت اقتلعتِ الشجرة فستبقَيْن وحيدة غريبة يتيمة، لا عِزّ لك ولا جاه.
_ أخطؤوا في حقك وظلموك؟ فماذا فعلتِ أنت لتعالجي أمراض قلوبهم وأدواء ألسنتهم؟ ماذا فعلت لتحبيهم ويحبّوك؟
_ قد تقولين إنك تزورين مَن يزورك منهم وتهدين من يهديك وتسألين عمن يسأل عنك!
ليس هذا وصلاً يا عزيزتي! فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطِعَتْ رحمه وصلها».
والآن، ماذا؟ هل تصلين بعضهم ويقطعون، وتُحسنين إليهم ويسيئون، وتحلمين عنهم ويجهلون؟ ألا يَجبُرك أن الله نصيرك وظهيرك عندما تفعلين ذلك، كما أخبر رسولك صلى الله عليه وسلم قال: «لئن كنت كما قلت فكأنما تسفَّهم المَلّ ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك»؟
أتقطعين رَحِماً كافأها الله بِوَصْل مَن وصلها وقَطْع من قطعها؟ كيف تجرئين بالله عليك؟
أين جهادك وصبرك عليهم؟ أم أنك تريدين أن تدخلي الجنة دون جهاد وصبر؟ ثم أما علمت أن صلة الرحم مما يُدخل الجنة؟: «يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصِلوا الأرحام وصلّوا بالليل والناس نيام: تدخلوا الجنة بسلام».
اسمعي يا أختي:
_ أتريدين أن تدخلي الجنة؟ صِلي رحمك.
_ أتريدين أن يبارك الله في عمرك وينسأ في أثرك؟ صِلي رحمك.
_ أتريدين أن تُقبَل أعمالك؟ صِلي رحِمك.
_ أتريدين أن يكون الله لك ظهيراً؟ صِلي رحمك.
_ أتريدين أن يرزقك الله ويستمر في سعتك؟ وتريدين أن يغفر الله لك ويضاعف حسناتك؟ صلي رحمك، فالصدقة على ذي الرحم ثنتان: صدقة وصِلة.
صِِليهم بالسؤال والزيارة والعيادة والهدية والنفقة والصبر والمشاركة في المناسبات ومسامحتهم أولاً بأول, وعدم القيل والقال أو غِيْبتهم أو النمِّ عليهم, وبمحبّة أطفالهم وصغارهم وفصلهم عن المشاكل التي قد تحدث..
لن تتركي لهم مجالاً بعد ذلك ليكرهوك أو يسيئوا إليك - خجلاً إن لم يكن حباً.
عادت المرأة تتأمل الشجرة.. أعادتها إلى مكانها..
وامتلأ منزلها في اليوم التالي بالعائلة من الأرحام والأقارب يُلبّون دعوة ملحّة منها على العشاء... نفوس صَفََت، ونفوس حاولتْ, ونفوس بقيتْ على حالها من الشحناء! لا بأس... فالتغيير حصل بدون شك.
اقترحت عليهم تكرار الاجتماع في أي مكان ولو مرة في الشهر، وخرج كل منهم بشجرة هو ثمرة فيها.
***
أختم بقصة حقيقية: القوانين والدساتير تمنع منعاً باتاً عمل الأجنبيات (مَن لا يحملن جنسية البلد)، وفي ظل هذه القسوة غير المبررة، اشتدت حاجتها للعمل.. وبينما هي في بعض أشغالها يوماً، كان صغيرها يقرأ الحديث: «من أحب أن يُنسأ له في أثره ويُبسط له في رزقه...» فتذكرت عمة لها لم تسأل عنها منذ زمن، تركت كل أشغالها واتصلت فوراً بها, والنية الصلة.. في ذلك اليوم نفسه, وفي ظل قانون منع العمل والتشديد فيه ومطاردة المخالفين من الشركات والمؤسسات, رزقها الله بعمل محترم عن طريق إحدى الأخوات، التي جعلت ترجوها أن تعمل معها في مدرستها... سنوات طويلة مرت، وما زالت تعمل وما زال القانون يُمنع ... إنه الله القادر، وإنها صلة الأرحام.
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة