رمضان... شهر الثورة
رمضان ثورة على كسل النفس؛ ففي الصحيحين من حديث عائشة: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخلت العشر شد مئزره»... رمضان ثورة على هيجان الشهوة: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ومن لم يستطع منكم الباءة فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء»... شهر الثورة على حب الذات والأنانية كما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم: «من فطّر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء»... إنّه ثورة على إهمال الروح كما قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا}... ثورة على فُرقة الشعوب، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته»... هذا هو شهر رمضان.
في هذا التحقيق لنا لقاء مع : الشيخ الباحث الداعية الشاب خباب الحمد - فلسطين، ومع عضو هيئة التدريس في كلية الشريعة - جامعة الشارقة الدكتور أنور الشلتوني - الأردن، حول (مفهوم الثورة في شهر رمضان).
فإلى التحقيق:
مقومات شهر رمضان المبارك
حول المقوِّمات التي يمتلكها شهر رمضان المبارك وتؤهله ليكون عاملاً محفّزاً ومشجّعاً على الثورة والانتفاضة والتغيير, يقول الشيخ خباب الحمد: إنَّ من مقوِّمات هذا الشهر المبارك:
_ أنَّ في جوَّانية هذا الشهر المبارك حالة رهيبة تُعد أقوى مقوِّم وهي: دمج النفس المؤمنة بالاتصال بالخالق جلَّ في علاه، وتهذيب أخلاقه; فرمضان من بين سائر الشهور تتهيأ له الأنفس باستقبالٍ خاص به، وذلك لأنها تدرك أنَّها ستُقبل على عبادة طويلة ستأخذ منها ممارسة لشهر كامل. فهذه الإلماحات تُغري النفس المؤمنة لمزيد من الاهتمام به والتهيؤ لاستقباله بلهفة وفرحة بعيداً عن حالة الكسل وعدم الترقب لمجيء شهر كريم كهذا الشهر المبارك.
_ في شهر رمضان تتربى الأنفس وتعتاد على تغيير مراداتها وأهوائها؛ وذلك بتملك مُقوِّم مهم وهو: (التربية على الإرادة)؛ فكم من نفس أقلعت عن الكلام السيء بعد أن تربت وتعوّدت في هذا الشهر على هجران قبيح القول؟ وكم من نفس أقلعت عن تعاطي الدخان وما شابهه من المحرَّمات بعد أن عزمت على تركه وهَجره كاملاً في شهر رمضان؟ وكم من شخص عاد محافظاً على الصلاة في المسجد جماعة مع المصلين؟ وكل ذلك كان في مدرسة الثلاثين يوماً المباركة.
_ شهر رمضان فيه مقوِّم رئيس وأساس لا يقع في غيره من الشهور وهو (تصفيد الشياطين)، ولهذا نجد غالب أخلاق الناس فيه متغيرة إلى الجانب الديني والأخلاقي الأفضل والمتميز، فهذا المُقوِّم لا جرم أنَّه سيشجعه على الانتصار على أهواء النفس ورغبات الروح السيئة، وسيجعلها تثور على كل وسواس سوء وتتغير إلى الأكمل والأفضل.
_ من مقوِّمات هذا الشهر المبارك (الصبر) حيث يجتمع فيه أنوع الصبر الثلاثة: صبر على طاعة الله: حيث صيام شهر رمضان المبارك، بالصيام عن المحارم والمعاصي- صبر على أقدار الله: حيث فرض الله تعالى صوم هذا الشهر كاملاً، خصوصاً أنه سيأتي في وقت شديد الحرارة لم يأت قبله على الدول العربية من قبل ربع قرن كما أتى في هذا الشهر من شدَّة الحرارة وسخونة الجو. ولهذا فسَّر بعض العلماء الصبر المقصود بقوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} بأنه الصوم، وقد قال ابن رجب: «فإن الصيام من الصبر وقد قال تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}.
_ مقوِّم (الإخلاص)، فيكفي الصائم لله شرفاً أنَّ هذا العمل من الأسرار التي بينه وبين ربه، لا يطَّلع عليه أحد سواه؛ يقول الله عز وجل في حديثه القدسي: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به».
_ إنَّ رمضان بها فيه من عبادات عظيمة، يدعو الصائم إلى مقوم مهم للغاية ألا وهو (تقوى الله ومراقبة النفس)، فهو عبادة يتقرب بها العبد لربه بترك محبوباته، وقمع شهواته...
_ مقوم (الوحدة والاجتماع) وإنا نجد في كتاب الله تعالى عدداً من الآيات التي يخاطبنا الله عزَّ وجل بها خطاباً جماعياً فالله يقول: {يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم}, ورسول الله صلى الله عليه وسلم علّل اجتماع الأمة على صوم رمضان فقال في الحديث الصحيح الذي أخرجه الترمذي عن أبي هريرة: «الصوم يوم تصومون والفِطر يوم تُفطرون والأضحى يوم تُضحون».
_ مقوِّم (أفضلية هذا الشهر على سائر الشهور)؛ فخيريّة هذا الشهر تنعكس على جزيل الحسنات التي فيه، وعظيم الأجور المتدفقة على مبتغيها، والتي لن تكون في شهر آخر غيره بتمامه إلا في أوائل شهر ذي الحجَّة.
_ مقوِّم (الانتصار)؛ فالنفس المؤمنة تشعر أنها انتصرت على أهوائها ورغباتها، حينما تنتهي من صيام هذا الشهر بكامله، وتصلي مع المسلمين صلاة التروايح، وإن كان عليها زكاة رغبت أن تزكي في هذا الشهر لما فيه من حسنات كثيرة وأجور غزيرة، وتكون فرحتها كذلك يوم العيد لكي تحتفل به بعد نجاحها في اختبار الثلاثين يوماً.
جوانب التغيير
ماذا عن الجوانب التي تحتاج إلى إحداث ثورة وانتفاضة فيها؟
يجيب الشيخ الداعية خباب الحمد قائلاً: «تكمن هذه الجوانب المهمة في مجال التغيير والثورة على الواقع البئيس فيما يلي ذكره:
< الـــتـــغـــيـير الفكري؛ فالأفكار الخاطئة قد تنمو بجانب الأفكار الصحيحة، كالحشائش الضارة حينما تنمو بجانب الحشائش النافعة، ولا بدّ من سبيل للتغيير الفكري في الجانب العقائدي وهو الأهم لإصلاح الفكر من الضلالات الفكرية التي تحتوشه، واستبدال العقيدة الصحيحة والقيم النافعة؛ وإنَّ من مجالات الإصلاح الفكري التي تحتاج عناية أهل الفكر والتربية الدينية: التأثر بالأفكار الغربيَّة، ودفع الكثير من الضلالات الفكرية الناشئة في بلاد المسلمين، والغزو الثقافي، وتحصين الأفكار الصحيحة ودفع الأفكار الرديَّة، والتعصب الفكري لحزب من الأحزاب، والتمسك بالعادات والتقاليد...
< التغيير النفسي؛ إنَّ صفاء الروح في شهر رمضان يتأكَّد لقلَّة المطعومات والمأكولات، وبهذا يشعر المرء بنوع من الصفاء الإيماني، الذي يعكس على أصحابه نوعاً من التدبر والتأمل في كتاب الله تعالى وآيات الكون، والشعور بمعاناة الآخرين من الفقراء، ومعرفة حقوقهم وعدم نسيانهم من الصدقات.
وإنَّ من مجالات الإصلاح النفسي التي يجدر بخبراء النفس والإيمان الاهتمام بها: ربط النفس بالإيمان بالخالق، وإظهار معاني الإعجاز العلمي والقرآني في طبيعة النفس البشرية خصوصاً والحيوانية عموماً، ومحاربة الأمراض النفسية التي تأتي بسبب الانصياع لأحاديث النفس أو وساوس إبليس أو ضعف النفسيَّة فيعالجها أهل الإيمان، والصيام كما قيل من أهم أسباب دفع الهم والغم والحزن والاكتئاب.
< التغيير القلبي: ومن جوانب إصلاح القلوب: تهذيبها وإزالة ما علق بها من حقد وحسد وغيظ وسوء ظن والقصد لعمل الشر، ومحبة الإيذاء للآخرين والإضرار بهم والولاء لغير الله ومناصرة الكفار على المسلمين.
< التغيير السلوكي والتطبيقي؛ فإن صلحت الأفكار والقلوب والنفس، فإنَّ هذا سيظهر على أعمال الجوارح، وسيشرق السلوك والتطبيق من تلك الإشعاعات الصحيحة.
المسجد ودوره الريادي
جمعة الغضب... جمعة التحدي.. جمعة الرحيل.. جمعة الصمود.. إلخ، هكذا كانت عناوين الثورات التي انطلقت وما زالت في العديد من البلاد العربية... تحولت فيها المساجد إلى مراكز تعبئة ووقود للثورة والثوّار... كيف نعيد للمسجد دوره الريادي في رمضان هذا العام؟ والأهم كيف نحافظ على دوره الطليعي؟
يجيب الدكتور أنور الشلتوني قائلاً: «في رمضان يبث المسجد الأمل في نفوس الأمة بالوحدة؛ حيث تلتقي فيه جموع المصلين والمحسنين على قلب رجل واحد، فهذا يصلي بالناس، وهذا يُحسن إليهم، وذاك ينظف السجّاد ودورات المياه، وهذا يُعدّ التمر والماء والطعام، وهذا يجمع صدقات الفطر ويُحصي فقراء الحي، وهناك طفل يدور في نواحيه الشاسعة، وههنا حاج نائم قد بلغ به الجهد مبلغه، وكلهم أوى إلى بيت الرحمن فوسعهم وآواهم.
ومن هنا كان لا بد من العناية بالمسجد من خلال الجمعيات والمؤسسات الرسمية والخاصة ليقوم بدوره في جمع الأمة وتقوية صفِّها وتمتين دعائمها. وعلى الشيوخ والوُعاظ أن يستثمروا حضور الناس بكثافة إلى المساجد لتعليمهم وتوعيتهم، ولتحبيبهم بالدين وتثبيتهم عليه بعد رمضان، وبث الأمل في نفوسهم بحفظ الإسلام وأحقِّيته في السيادة والريادة والتمكين».
شعارات ثورية
وعن أبرز الشعارات التي يجب أن يرفعها المصلّون في صلاة التراويح هذا العام, يقول أنور الشلتوني: الشعارات المختصرة المعبِّرة لها أثر كبير في النصر، وقد رأينا شعارات رفعت في الثورات كانت وقوداً لها، وأسهمت إسهاماً كبيراً في تحقيق الأهداف - لا سيما - عندما تلتقي الحناجر والقلوب عليها، وتعمل السواعد كلها لأجل خدمتها. ومعركتنا مع الشيطان - قاتله الله - ليست أقل من تلك المعارك من أجل الحرية والخلاص. ولعل في إيتاء النبي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم علامة على أهميتها في التغيير، فقد كان صلى الله عليه وسلم يوجز في القول وأعظِم به من إيجاز دافع رافع: «الكلمة الطيبة صدقة»، «والصدقة برهان».
فحريٌّ بأهل المساجد والتراويح والتهليل والتسبيح أن يرفعوا شعار الثبات على الدين، والالتزام به والالتفاف حوله بعد رمضان، فقد ثبت أنه الضمانة الوحيدة للنجاة.
وكذلك شعار الوحدة ونبذ التمييز والفئوية والجِهَوِية، لتحقيق أهداف الأمة العظيمة في وجه من استعبدها واستباح حرماتها ومقدساتها. وشعار البذل والتضحية حتى يصنعوا مشروع النصر والنهضة المرتقب للأمة، الذي بات قاب قوسين أو أدنى بعد ما شاهدناه من تضحيات وانتصارات، وكل من يبذل اليوم سينال شرف دخول قائمة الباذلين الشّرفية، ولا مكان في رمضان هذا للكسالى والمتخلفين.
***
وبعد، علينا أن ننتهز فرصة رمضان من أجل إيقاظ نفوسنا وشحذ هممنا حتى نقوم بالثورة المنشودة، التي تشمل الفرد والأسرة، والمجتمع والأمة، وتؤدي في نهاية المطاف إلى تغيير جدّي يوقظ من جديد خير أمةٍ أخرجت للناس، المؤمنة باللّه.. الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة