دَوْر الدين في حياة اليهود
الدين هو الأمر الذي يجمع اليهود في أجناسهم وألوانهم، وفي جميع مواطنهم وشتّى مراحل حياتهم، وليس لهم إلاَّ هذا الأمر يجمع شتاتهم ويؤلِّف بينهم.
وقد اجتمع لهم في هذا الدين الذي قام بصياغته الأحبارُ وعلى رأسهم (عَزْرا) ما يُغريهم بالاجتماع عليه، ويدفعهم إلى التمسك به والتعلُّق بأهدابه.
فهذا الدين يعتبرهم أبناءَ الله وأحبَّاءه، وهم «شعب الله المختار» الذي أعْلَى الله شأنه على كل الشعوب، وهم في دينهم «الشعب المقدَّس».
ثم إنَّ هذا الدين يمنِّيهم بظهور رجل عظيم مؤيَّد من الله وموعود بالنصر منه. هذا الرجل هو الذي يسمّونه (المسيح المنتظر)، الذي ستكون له الكلمة العليا في البشرية كلِّها، وفي العالم أجمع عند ظهوره، لأنَّه سوف يقود أتباع اليهود إلى النصر المبين على كل الأعداء، وسوف يقوِّض أركان حكم جميع أعدائه ويقود اليهود إلى أورشليم القدس، فيحكم الدنيا كلَّها من خلالها، وتصبح البشرية كلُّها خاضعة له ولأتباعه، منقادة لأوامرهم.
وهذا الدين يجعل منهم وحدهم أحفادَ الرجلِ العظيم والنبي الكريم إبراهيم عليه السلام، الذي نَسَل منه جميعُ الأنبياء من بعده، فهم يزعمون أنَّهم وحدهم أبناؤه الحقيقيون المعتبرون عند الله.
وهذا الدين جعلهم يزعمون أنَّهم يمتلكون الكتاب الوحيد المنزَّل من الله، وهو كتاب (التوراة)، وأنَّ غيره من الكتب التي أُنزلت على الأنبياء سابقاً ولاحقاً لا قيمة لها أمام ما احتواه كتابهم التوراة!!
ثم إنَّ هذا الدين الذي افتروا فيه على الله أموراً كثيرة ودعاوَى عريضةً، يزعمون أنَّ مِن أحكامه التي لا مِرْية فيها أنَّ الله قد أباح لهم كلَّ شيء عند غيرهم من الأمم التي يسمّونها (الغوييم)، وأنَّ الله قد خلق هذه الأمم لخدمة شعبه المختار وأمته المقدَّسة (اليهود)، فأموال الغوييم وجميع ممتلكاتهم، وأوطانهم، وأرواحهم، وكل شيء عندهم، مِلْكٌ خالص لليهود: أبناء الله وأحبابه!!
هذه الأمور وما إليها جعلت اليهود يفخرون بأنهم على الدين اليهودي كما سُمي تاريخياً، وجعلتهم يعملون بجدٍّ ونشاط كي يحوزوا المرتبة العليا التي يمنّيهم بها هذا الدين في نصوصه التي افتراها الأحبار على الله عز وجل، وصدَّقها القوم أشدَّ التصديق، وراحوا يعملون على تحقيقها. وهم في الحقيقة أمّةٌ غير متديّنة، بل هم أمةٌ فاسقة مارقة في معظم أفرادها، وفي معظم مراحل تاريخها!!
لقد عَرَفَ بنو إسرائيل - وهم الأجيال الأولى من اليهود - دينَ الله الذي بعث فيه أنبياءه السابقين منذ القديم، وكان مصدر هذه المعرفة ما أُثر عن آبائهم الأنبياء الكرام (إبراهيم وإسماعيل وإسحاق)، ثم ازدادت معرفتهم بهذا الدين وبأركان الإيمان الأساسية فيه ممَّا تعلموه من أبيهم المباشر (يعقوب)، الذي أُطلق عليه اسم (إسرائيل) أيضاً، وممَّا تعلّموه من أخيهم «يوسف» الذي أتمَّ الله عليه نعمته، فاجتباه نبيّاً في الصالحين، ودعا إلى هذا الدين إخوته وأبناءهم وأهل مصر في ذلك الزمان.
ثم كلّفهم الله بحمل هذا الدين والدَّعْوة إليه، فبعث فيهم موسى وأخاه هارون، وأنزل عليهم التوارة - وفيها هُدى ونور - وعرّفهم من جديد بأركان الإيمان، وبيَّن لهم العبادات التي افترضها عليهم، والتشريعات التي تناولت جميع شؤون حياتهم، وشرع لهم الوصايا العشر وغيرها، كما بشرهم بخاتم النبيين والمرسلين محمد العربي، الذي سوف يختم الله به الدين، وذكر لهم أوصافه، ودعاهم إلى التصديق به وإلى اتِّباعه.
هذا هو الدين الذي جاءهم به موسى عليه السلام، الذي احتوى تعاليم الكتاب الذي أنزله الله عليه: التوراة. لكنَّ أحبار اليهود حرَّفوا دينهم تحريفاً كبيراً، فزادوا فيه وأَنقَصوا منه، وغيَّروا في عقائده الأساسية، وفي فرائض العبادات فيه، كما تلاعبوا بالشرائع التي نظَّمت حياتهم، وحرّفوا كتابهم المنزل - التوارة -، وأضافوا إليه أسفاراً فيها أخبار من تاريخهم، وفيها الكثير من أباطيلهم وأكاذيبهم، وفيها ما لا يليق ذكره من الكلام حول أنبيائهم الكرام عليهم السلام.
وقبل أن أتحدّث عن الدين عند اليهود في عقائده وعباداته وتشريعاته، في صياغته الأخيرة التي تمت قبل ألفَيْ سنة أو أكثر، أجد أنَّ من الضروري أن أجيبَ عن السؤال الآتي: ما اسم هذا الدين الذي جاء به موسى عليه السلام والأنبياء من بعده؟
هل اسمه (دين موسى)، أو (الموسوية)؟ هل هو (الدين الإسرائيلي) أم هو (اليهودية) كما اشتهر تاريخياً، وكما استقر اسمه عند الناس من زمن طويل؟
إنَّ نبي الله موسى عليه السلام - وهو من أولي العزم مِنْ كبار الأنبياء – لم يأتِ بدينٍ خالف فيه إخوانه الأنبياء السابقين، أو آباءه من النبيّين الأكرمين، بل جاء بدين يدعو إلى وحدانية الله تعالى، وما يلحقها من عقائد أخرى، وما يتبعها من تعاليم قويمة فيها العبادات العظيمة والأخلاق الكريمة والشرائع الحميدة.
إنَّه جاء يدعو إلى مِلَّة أبيه إبراهيم، مِلَّة التوحيد، {ومَن يرغب عن ملَّة إبراهيم، إلا من سَفِه نفسه، ولقد اصطفيناه في الدنيا، وإنه في الآخرة لمن الصالحين ] إذ قال له ربُّه أسلم، قال: أسلمت لربِّ العالمين} (البقرة: 130-131).
إنَّ اسم الدين الذي جاء به موسى عليه السلام هو «مِلَّة التوحيد»، مِلَّة إبراهيم والأنبياء من قبله، وملَّة التوحيد هذه، لم يسمِّها الله (دين موسى) ولا (الموسوية) ولا (اليهودية). ولم تسمِّها أسفار اليهود بذلك. إنّ تسمية دين موسى بـ «اليهودية» تسمية طارئة مستَحدثة استعملها الناس بعد قرون من وفاة موسى عليه السلام. وكان بداية استعمالها من يوم أن رجع قسم من اليهود الذين سُبُوا إلى بابل بإذن من الإمبراطور الفارسي «قورش» في القرن السادس قبل الميلاد؛ أي منذ ما يزيد على ألفَيْ سنة. فمنذ تلك الحِقبة بدأ الناس ينادون جميع مَن ينتمي إلى أسباط بني إسرائيل (يهوذ)، نسبة إلى آخر ممالكهم سقوطاً (مملكة يهوذا)، ثم أسقط الناس النقطة من حرف الذال تخفيفاً، فصاروا ينادونهم (يهود)، والواحد «يهودي»، ثم غلب هذا الاسم على دين القوم، فأصبح بنو إسرائيل ومن دخل في دينهم من الأقوام الأخرى هم اليهود، وأصبح دينهم هو (اليهودية).
إنَّ ذِكْرَ القرآن الكريم لاسم (يهود) أو (هود) أو (يهودي) ما هو إلا تسمية للقوم ولدينهم بما أصبح متعارفاً عليه بين الناس، وليس هو إقرار من القرآن الكريم لليهود بهذا الاسم الذي غلب عليهم وعلى دينهم. وقد بيّن الكتاب العزيز في كثير من آياته حقيقة دين موسى ودين الأنبياء من آبائه، ودين الأنبياء ممن جاؤوا من بعده في قومه بني إسرائيل: {وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا، قل بل ملَّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين ] قولوا آمنّا بالله وما أُنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أُوتِيَ موسى وعيسى، وما أُوتِيَ النبيّون من ربهم، لا نفرِّق بين أحدٍ منهم، ونحن له مسلمون}.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن