سيدة القصور
التاريخ:
فى : تراجم وسِيَر
894 مشاهدة
كلنا يعرف ما كان عليه الخليفة عمر بن عبد العزيزرحمه الله قبل الخلافة من النعيم الذي كان يرفل فيه، والجاه الذي يعيش في كنفه، فقد كان عمر رغم صلاحه مشهوراً بحبِّه للطيب والثياب والعيشة الناعمة الفاخرة، وكانت حصيلة مخصّصاته كونه أميراً أموياً أربعين ألف دينار في السنة، ولكنه عندما نُصّب خليفة للمسلمين ترك هذا كله، والسؤال الذي يهمنا هو: ما كان موقف زوجه فاطمة - ابنة الخليفة عبد الملك بن مروان وحفيدة الخليفة مروان بن الحكم وأخت الخلفاء الثلاثة: الوليد ثم سليمان ثم يزيد أبناء عبد الملك - من هذا الأمر؟ وهي التي قال فيها الشاعر:
بنت الخليفة والخليفة جَدُّها
أخت الخلائف والخليفة زوجُها
كان عمْر زوجها حين اعتلى سُدّة الخلافة سبعاً وثلاثين، وعمره حين مات وخلّفها وراءه تسعاً وثلاثين... ومن المؤكد أنّها كانت تصغره سناً، أي شابة في ريعان شبابها، ولا يخفى ما للشباب من شهوات ونزوات وصبوات؛ فهل تبعت فاطمة زوجها راضية قريرة العين؟ أم تبعته مكرهة مجبرة؟ أم فارقته وقالت له: لكم دينكم ولي دين؟...
إننا لنجد فاطمة تمثّل لنا خير تمثيل حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة»،
وحديثه القائل: «ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله عز وجل خيراً له من زوجة صالحة إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرّته، وإن أقسم عليها أَبَرّته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله...».
ذكر السيوطي في كتابه «تاريخ الخلفاء» موقفَ عمرَ بنِ عبد العزيز بن مروان مع زوجتِه فاطمَة بنتِ عبد الملك بنِ مروان في شأن «جوْهَر عظيمٍ» كان والدُها الخليفةُ عبدُ الملك أهْدَاهُ إليها؛ فقال لها: «اختاري، إمَّا أن تَرُدّي حُليكِ إلى بيتِ المالِ، وإمّا أن تَأذَنِي لي في فِراقِكِ، فإني أكْرَه أن أكون أنا وأنتِ وهو في بيت واحدٍ. قالت: لا، بل أختارُكَ عليه وعلى أضعافه. فَأمر بهِ فَحُمِلَ حَتَّى وُضِعَ في بيتِ مالِ المسلمين. فَلمّا مات عُمر، واسْتُخْلِفَ يزيدُ بنُ عبد الملِك - أخو فاطمة - قال لها: إنْ شِئْتِ رَدَدْتُهُ إليكِ. قَالتْ: لاَ، واللهِ لا أطِيبُ به نفساً في حياتِه، وأَرْجَعُ فيه بعد مَوْتِهِ»!
فاطمة لم تتبع زوجها فقط راضية بهذه العيشة الزهيدة، بل كانت العنصر القويّ والركن المتين والسنَد الأمين الذي كان يستند إليه عمر بن عبد العزيز زوجها أثناء خلافته التي لم تدم أكثر من سنتين وخمسة شهور...
روى المؤرخ المصري ابن الحَكَم في سيرته: أنّ عمر ابن عبد العزيز كان يوماً جالساً في شرفة له في يوم بارد إذ أقبلت امرأة من العراق على حمار لها حتى وقفت عليهم وفيهم عمر؛ فقالت: أريد رحل أمير المؤمنين.
فمضت فإذا هي بدار مهشمة لا علالي لها ولا أسافل، وعلى بابها شيء من مسوح إلى نصف الباب، وإذا شيخ قاعد فقالت له: يا هذا إني أريد امرأة أمير المؤمنين فاطمة. فقال لها الشيخ: ادخلي عليها يرحمك الله. قالت: وما لها من حاجب؟! قال: لا. قال: فدخلت عليها فإذا هي بفاطمة قاعدة تغزل، وإذا ليس في بيتها شيء إلا حصير، وسرير عليه فراش، فاسترجعت المرأة.
فقالت فاطمة: أَفزعت؟ مالك يا أَمَة الله؟! قالت: ضربتُ مسافة شهر إلى بيت من بيوت الفقراء؟!
فقالت لها: هوّني عليك فإن فَقر هذا البيت هو الذي عمّر بيوت المسلمين. قال: فجلستْ إليها فتحدثتا ملياً، وإنها لتسائلها إذ دخل عمر وعليه قميص غليظ إلى نصف ساقيه ورداء قطواني غليظ، وفي الدار شيء من طين قليل قد بُلَّ لبعض ما تحتاج إليه، فأقبل عمر حتى دنا من البئر فأخذ دلواً فصبّ في ذلك الطين وجعل يُكثر الالتفات إلى البيت الذي فيه فاطمة وهي حاسر؛ فقالت لها المرأة: أيتها المرأة المسلمة غطِّي شعرك فإن هذا الطيان يكثر اللحظ إلى ناحيتك.
قالت لها فاطمة: يرحمك الله ليس هذا بِطَيَّان! هذا أمير المؤمنين الذي جئت في طلبه تضربين إليه من العراق. ودخل عمر على فاطمة فقال: يا فاطمة هل غدّيت ضيفك؟! قالت: لا. قال: سبحان الله! هلمَّ لها ما عندكِ. فأتتها بغداء.
ثم قام عمر إلى قُفّة معلقة في مضجعِه - أو مصلّاه - فإذا فيها عناقيد من عنب فجعل ينتقي لها صِحاحه ويُطعمها، ثم قال: حاجتك يا أمة الله؟! فقالت: يا أمير المؤمنين هلك زوجي وترك عليَّ ثماني بنات كُسُد كُسُل. قال عمر: هلك زوجك وترك ثماني بنات كُسُد كُسُل؟ وبكى عمر حتى اخضلّت لحيته، فلما رِأت المرأة رِقّته جعلت تزيده، وجعل يبكي ويشتدّ بكاؤه. قالت لها فاطمة: يا أمَة الله كُفي عن الرجل فقد خلعتِ قلبه.
صفاتها
كانت السيدة فاطمة بنت عبد الملك رحمها الله كما وصفها أصحاب السِّيَر، تقية وَرعَة في دين الله، متواضعة في عزّة، صابرة على الطاعة ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، ذات عقل وتدين كبير، أديبة، تحفظ الشعر والنثر إلى جانب ما تيسر من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف. يقول ابن كثير في كتابه البداية والنهاية: صَحِبتْ زوجها فأحسنت صحبته حياً وميتاً، ولها معه مواقف رائعة جعلتها مثالاً للمرأة المسلمة والزوجة الصالحة، وقدوة مضيئة لمن أراد أن يقتدي بسيدة فاضلة.
وفاتهـا
توفيت فاطمة بنت عبد الملك - يرحمها الله - في خلافة هشام بن عبد الملك وأوصت أن تدفن بجانب زوجها عمر بن عبد العزيز في مدافن معرّة النعمان قرب حلب.
الطمع بما عند الله
بعد استعراض هذه الجوانب من شخصية فاطمة بنت عبد الملك، نتساءل: يا ترى، كم امرأة سترضى العيش مع زوجها إن قرّر التخلي عن كل ما يملك مرضاةً لله.. تقوم بنفسها بعجن الطحين، وخَبز الخبز، وترقيع ثوب زوجها وأولادها. ويقوم زوجها بوضع الطين في ثقوب حائط المنزل، بعد أن كان الخدم يقومون بكل هذه الأمور؟ كم امرأة سترضى أن تستبدل بقصرها بيتاً من طين متوارياً خلف المسجد لا يملأ عين الناظرين؟
لا شكّ أن النساء اللاتي سيرضين بذلك هن نادرات نادرات، ومنهن كانت فاطمة بنت عبد الملك التي آثرت حياة الشظف والفقر والتقشف طمعاً بما عند الله وبما أعدّ تعالى للمتقين في جنان الخلد، مما جعل زخارف الدنيا وزينتها لا قيمة لها عندها..
ولله دَرّ الشاعر حين قال:
إنّ التزوج بالنـساء لأربعٍ
حَسَبْ ومال أو جمال رائعُ
هذي الثلاثة ليس تكفي وحدها
إنْ لم يزيِّنها العظيم الرابعُ
دين يهذِّب كلَّ ما في نفسها
لولا التديُّن كل شـيء ضائعُ
إنّ الجمالَ بدون دينٍ فتنةٌ
وغِوايةٌ تُغري وسهمٌ صارعُ
والمالُ قربى من شـرار جهنم
والجاه للظلم المؤكد دافــعُ
إلا إذا ضبط التديُّنُ خَطْوها
فإذاً فقد صُنِعَتْ ونِعْم الصانعُ.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة