الرجال لا يبكون !
الرجال لا يبكون”: عبارة تُلقَّن للصبية مذ يكونون صغاراً، فيعاب عليهم البكاء عند المرض والألم، ويمنعون من البكاء عند الحزن والأسى. وفي كل موقف وفي كل مناسبة وفي كل يوم تكرر هذه الكلمات على مسامع الأبناء: “الرجال لا يبكون”، وقد تناقلت بعض الفئات هذه العبارة “الرجال لا يبكون” جيلاً عن جيل، وكابراً عن كابر، حتى صارت تغلب على رجالهم الجلافة والغلظة؛ فهم قساة القلوب لا يعرفون حقيقة الرحمة ولا يقيمون وزناً للمشاعر؛ فقد يعقون ويقطعون الأرحام لأنهم لا يهتمون بالعواطف الأبوية والأخوية، وقد يظلمون ثم لا يشعرون بتأنيب الضمير، وقد يفسقون ثم لا يتأثرون بالمواعظ حق التأثر، وغيره.
وهذه بعض النتائج السيئة التي حصلنا عليها من ترديد هذه العبارة الخطيرة.
* * *
وإن الذي جعل الناس يستهجنون البكاء ويحرّمونه على ذكورهم أنهم اعتبروه -على إطلاقه- ضعفاً فمنعونه مطلقاً، فهل تعلمون أن للبكاء أسباباً متفاوتة وأن من الخطأ أن ندرجها جميعاً في سلّة واحدة فنحكم عليها حكماً واحداً؟
فالبكاء قد يكون لضعف أو لعجز واستسلام، ومثل هذا البكاء نرفضه نحن المسلمين ولا نقبله حتى لبناتنا فضلاً عن أولادنا الذكور، فالإسلام يفضل المؤمن القوي على الضعيف، والمؤمن الإيجابي في سلوكه على المؤمن السلبي.
* * *
ولكن للبكاء أسباباً أخرى حبذها الإسلام وحث الناس عليها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبكي لأجلها! وكان لبكائه المحبذ المشروع هذا أسباب عدة ينبغي أن نعرفها لنتمثلها:
- فتارة هو الشفقة والمحبة والرحمة: “… فأتاهم رسول الله r… فيجد عائشة متسترة بباب دار أبي بكر تبكي بكاء حزيناً… فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم “[1]، وأيضاً: “أرسلت بنت النبي صلى الله عليه وسلم إليه أن ابناً لي قُبض (يحتضر) فأتنا… فرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي ونفسه تتقعقع (تتحرك وتضطرب بصوت)… ففاضت عيناه، فقال سعد: يا رسول الله، ما هذا؟ فقال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء”[2]، وأيضاً: “أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد عبد الرحمن بن عوف فانطلق به إلى ابنه إبراهيم، فوجده يجود بنفسه، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم في حجره فبكى، فقال له عبد الرحمن: أتبكي؟ أولم تكن نهيتنا عن البكاء؟ فقال: لا، ولكني نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين، صوت عند مصيبة -خمش وجوه وشق جيوب- ورنة شيطان”[3]، وبكى r لمّا شاهد إحدى بناته ونفسها تفيض.
- وتارة هو الشوق والحزن على الفراق: “أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أمه بالأبواء في ألف مقنّع، فبكى، وأبكى من حوله”[4].
“شهدنا بنتاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم تدفن ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر. فرأيت عينيه تدمعان…”[5]، ولما مات ابنه إبراهيم، دمعت عيناه وبكى رحمة له، وقال: “تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون”[6].
وبكى لما مات عثمان بن مظعون: “عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبّل عثمان بن مظعون، وهو ميت، وهو يبكي، أو قالت: عيناه تذرفان”[7].
- وتارة من باب الخشوع وخشية الله: “عن عبد الله بن الشِّخّير العامري رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلموهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء”[8].
وبكى لما قرأ عليه ابن مسعود القرآن: “قال لي رسول اللهصلى الله عليه وسلم: اقرأ علي القرآن، فقلت: يا رسول الله، أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال: فقرأت عليه سورة النساء، حتى جئت إلى هذه الآية: {فكيفَ إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً}[9] قال: حسبك الآن، فالتفتّ إليه فإذا عيناه تذرفان”[10].
وبكى لما كسفت الشمس: “انكسفت الشمس على عهد النبي r فقام إلى الصلاة… فجعل ينفخ في آخر سجوده من الركعة الثانية ويبكي…”[11].
* * *
فكيف تمنعون الذكور من البكاء وقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم؟ وكيف تستهجنون البكاء والنبي صلى الله عليه وسلم قال: “هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرُّحَماء”؟ وكيف ترفضون البكاء وقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم واحداً من أسباب النجاة من النار: “لا يلج النار رجل بكى من خشية الله”[12]؟
وبهذا تبدو الخطورة الحقيقية لهذه العبارة! إذ كيف تلقّنون الصبية مخالفة نبيهم جهاراً، وقد أمرهم وإيانا بالبكاء أمراً، وفي عدة مواضع:
(1) خشيةً لله وخوفاً من عقابه “وابْكِ على خطيئتك”[13].
(2) وعند قراءة القرآن: “فإذا قرأتموه فابكوا”[14].
(3) وعند المرور بديار المعذَّبين: “لا تدخلوا على هؤلاء المعذَّبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم يصيبكم ما أصابهم”[15].
* * *
فيا أيها الناس، انتبهوا من هذه العبارة الخطيرة: “الرجال لا يبكون”! وكفوا عن ترديدها وتلقينها الصغار، فقد بكى النبي r وهو رجل، بل هو أفضل الرجال!
وقد بكى وهو النبي، وبكى وهو المشرِّع، وبكى وهو القدوة. فكان لا يحبس مشاعره، ولا يكبت عواطفه، بل يبكي مما يُبكى منه، ويتأثر لما ينبغي التأثر له. ولكن لم يكن بكاء النبيصلى الله عليه وسلم بشهيق ورفع صوت، بل كانت تدمع عيناه حتى تَهْمُلا، ويُسمَع لصدره أزيز (كما وصفه ابن القيّم في “زاد المعاد”). إنما كان يبكي ولا يجد في ذلك حرجاً وكان يبكي ولا يجد بأساً، وكان يبكي ويُبكي معه صحابته، وقد بكى صحابته من بعده!؟
فأي شيء بعد ذلك تقولون في بكاء الرجال؟
* * *
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن