الشعوب إذ تستعيد وعيها
تغييب وعي الشعوب.. سياسة انتهجتها الأنظمة الشمولية في بلادنا؛ يكرّسها الحاكم و«سحَرته» تحت مسمى «القومية العربية»، وتُجمِّلها شعارات مثل: أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة.. خدّرت المشاعر وغيبت العقول واختصرت الأمة بشخص حامي الديار: بالروح بالدم نفديك يا «زعيم»
وهكذا اختُطفت الشعوب خلال عقود النكبة والنكسة وما تلاها.. عملت معاول العلمانية والشيوعية والاشتراكية في بُنيتها الفكرية وفي عقيدتها هدماً وتشويهاً.. ولا ضير.. طالما أن رابطة القومية تحتوي الجميع:
أجارنا الله..
والسؤال الذي يحضرني: كيف استطاع الحاكم تزييف وعي الشعوب حتى في الهزائم؟ والشاهد احتفالات النصر عشية نكسة 67؛ وقت أن كان الصهاينة يغتصبون ما تبقى من فلسطين كان الإعلام العربي (جَوْقة الزعيم) يُلهب حماسة الشعوب السَّكرى بأهازيج النصر، وأم كلثوم تصدح بصوتها بأغنية «هذه ليلتي وحلم حياتي» لتخدّر المغيّبين.. وقد أبدع الشاعر يوسف العظم في تصويره لتلك الكارثة بقصيدة عنوانها: «خدِّريهم يا كوكب الشرق» هذه بعض أبياتها:
إذاً، أجيالٌ تربّت على مثل ذاك الضياع... أنتجت هزائم ونكسات.. وأجيالٌ تعاقبت بدأت تدب فيها روح الحياة؛ أسهمت في ذلك ثورة الاتصالات والتدفق المعرفي الذي لم يُبق منافذ المعلومات بقبضة الحاكم ومؤسساته، فبدأت الصحوة الثانية لأبناء هذا الجيل، ظهرت أبرز ملامحها مع الثورات؛ فكانت إرادة التحرر ومجابهة الظلم والاستعداد لدفع الأثمان.. غير أنها كشفت عن عورات مجتمعاتنا العربية، وعن مركّبات الجهل والضياع والاستلاب والهشاشة في بُنيتها الفكرية والعَقدية؛ ولعل مصر بعد الانقلاب أكبر شاهد على «فراغ المضمون» الذي تعانيه نسبة مهمة من الشعب، وسهولة اختراقه و«الضحك عليه» من إعلام رخيص ارتضى دهاقنته أن يكونوا أبواق النظام.. ولو وعى الشعب لما انزلق عبر الأثير!!!
ولعل من أبرز مظاهر غياب الوعي السياسي لدى مجتمعاتنا العربية
• عدم فهم خلفيات الأحداث لدى نسبة كبيرة من الشعوب.. مما يجعلها عرضة للاحتواء من اتجاهات مختلفة
• التقصير في امتلاك أدوات الوعي السياسي (فهماً وتحليلاً وتخطيطاً...) من حيث التخصص والتدرب وبناء الخبرة..
• غياب قوى الضغط الفاعلة (اللوبيات)، المؤثرة في القرار السياسي للدول
• نُدرة مراكز الدراسات والأبحاث، وعدم فاعلية الموجود منها؛ وذلك مؤشر أساس للتخلف السياسي القائم في بلادنا؛ خاصة إذا ما علمنا أن هذه المراكز مَعنيّة ببلورة الرؤى واقتراح الحلول للقضايا الكبرى، ولها دور أساس في رسم التوجهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية
وهذا البند يستحق وقفة لما له من دور فاعل في صنع القرار في الدول المتقدمة مع إهمال له في العالم الثالث... فأمريكا الشمالية وحدها فيها 1912 مركزاً، في حين أن بلدان الشرق الأوسط ومعها شمال أفريقيا مجتمِعة فيها فقط 329!!! (من دراسة: «دور مراكز الأبحاث في الوطن العربيّ: الواقع الراهن وشروط الانتقال إلى فاعلية أكبر»، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013). وهذه المراكز في الغالب إما مؤدلجة أو مسيّسة أو تعاني شُحَّ التمويل.. فضلاً عن أن الدولة والأحزاب - ومن بينها الأحزاب والحركات الإسلامية - لا تجعل من هذه المراكز مستنداً لها في بناء رؤاها ومواقفها وقراراتها وفق دراساتها العلمية وقراءتها الدقيقة الموضوعية للواقع بكل تشعُّباته!!!
ويكفي أن نعلم أن نسبة التمويل في مجمل الوطن العربي للبحث العلمي تتراوح بين 0.1% و0.3%، في حين تصل هذه النسبة في الكيان الصهيوني إلى ما يوازي 4.7% من الموازنة العامة للدولة (المرجع السابق).
في ظل هذا الواقع، لو أردنا استجلاء مدى وعي المرأة في مجتمعاتنا؛ نجد أن حالها جزء لا يتجزء من حال المجتمع الذي تعيش فيه، ولكن مع نسبة أكبر من الإحجام عن متابعة مجريات الأمور ومحاولة فهمها وتحليلها وما يترتب عليها.. رغم أن الشرع لم يمنعها من المشاركة بالرأي والمشورة ونحو ذلك.. ولعل طبيعة المرأة وتفضيلاتها من ناحية، والفهم الخاطئ لدورها في المجتمع، والموروثات البالية، والبيئة الحاضنة، والمحدَّدات التربوية.. قد تكون خلف هذا الإحجام. مع أن المرأة في العهود المضيئة للإسلام شاركت عن فهم ووعي لدورها ولحقّها في ذلك، يؤيده تدخل السيدة عائشة فيما حدث بين علي ومعاوية رضي الله عنهم جميعاً (وبالطبع لست معنية هنا بالتوقف عند هذا الحدث وخلفياته وتحليلاته، وإنما قصدت الفعل نفسه)، وقبل ذلك موقف الصحابية التي أنكرت على سيدنا عمر تحديد المهور: «ليسَ هذا لكَ يا عمرُ».. وقبل ذلك استشارة النبيِّ [زوجتَه أم سلمة بعد صلح الحديبية والعمل برأيها في أمر يخص شؤون المسلمين
غير أن ما أفرزته الثورات من وعي هذا الجيل بذاته، ورفضه لواقع عاشه آباؤه وأجداده، ومحاولات حثيثة للفِكاك من قبضة: «ما أُريكم إلا ما أرى»، وكسره حاجزَ الخوف «وابتعاده عن الحائط إياه».. كل ذلك ينبئ، رغم ضبابية المشهد، بأن واقعاً جديداً يفرض نفسه، وشخصية عربية يُعاد تشكيلها وفق المستجدات... مما يحتّم على الأحزاب والحركات الإسلامية وكذا المحاضن التربوية والمؤسسات الاجتماعية حُسن توظيف هذه المعطيات من خلال توعية الشباب وفتح المجالات كافة أمامهم ليأخذوا فرصتهم في التلقي والتدرب والتطبيق، وفق أدوات عصرهم، والتعبير عن آرائهم بحرية «عاقلة»، وتدريبهم على التفكير الموضوعي والحكم المتجرد والنقد البناء، وإعطائهم فرصة التجربة والخطأ، وعدم محاصرتهم بالمثاليات.. مع التحذير من التعامل معهم بعقلية العقود السابقة.. حتى لا يخرجوا من قبضة الحاكم ليقعوا في قبضة التفكير الحزبي الضيق.. بل حقهم الانطلاق في فضاءات أشمل وأرحب ضمن الالتزام باحكام الإسلام.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة