اليأس من صلاح النفس
التاريخ:
507 مشاهدة
السؤال
أود استشارتكم - حفظكم الله تعالى - في موضوع أخٍ عزيزٍ عليَّ جداً، قد احترت جداً في إصلاحه، والصلاح بيد الله وحده. هذا الأخ يحب الالتزام، ويكثر القراءة كثيراً في كتب العلم الشرعي وقد أرخى لحيته، ولكنه مبتلىً جداً جداً بحب الشهوات، خاصةً شهوةَ النساء والحرام ، وهو وإن لم يواقع الزنا، إلا أنه مدمنٌ النظر إلى المواقع الإباحية، ومدمنٌ ممارسةَ العادة السرية، وهو ميتُ العزيمةِ وليس واهنها، بل عزيمتهُ ميتةٌ ميتة، لا يستطيع المداومة على أمرٍ من أوامر الله تعالى، حتى الصلاة، لا يستطيع أن يداوم عليها، كسولٌ جداً جداً في أمور الطاعات بل وحتى في أمور الدنيا، وهو الآن طالب في الجامعة وهو كثيرُ الغيابِ عن المحاضرات، ولا يداوم إلا لماماً حتى أنه تعرض للفصل من الجامعة أكثر من مرة، ورغم ارتفاع مستواه العلمي وتفكيره نظراً لحبه القراءة والكتابة؛ إلا أنه تعرض كثيراً للحرمان في عدد كبيرٍ من المساقات التي يدرسها في الجامعة، وحُرِمَ بالتالي من دخول الاختبارات، وأدى ذلك إلى انخفاض معدله التراكمي بشكلٍ كبيرٍ، على الرغم من أنه يدرس في مجالٍ يحبه جداً، ويتقن الكثير من المقررات الخاصة به، وباختصار: صاحبي أزمته أزمة عمل لا علم، فهو يقرأ كثيراً، وقرأ عن علو الهمة، وتطوير الذات وعدم اليأس، وعن أهمية النشاط والعمل، غير أنه لم يستطع أن يتقدم خطوةً واحدةً في الاتجاه الصحيح، وهو قد ضاق بنفسه ذرعاً، ويئس من صلاحها يأساً ظاهراً، حتى ظن والعياذ بالله أنه إنما خلق للجحيم لا للنعيم، ويظن أن موته أنفع من حياته، ويتعرض كثيراً لأزماتٍ ماديةٍ، ودنيويةٍ، وعمليةٍ، وفي الجامعة، ويخشى على نفسه الفضيحة، وحالته النفسية سيئةٌ جداً، حتى أنه فكر في الانتحار، والعجيب أنه يتمنى صلاح نفسه، ويريد أن يعيش السعادة الحقيقية، ويريد أن يكون ناجحا في حياته الدنيا والأخرى، غير أنه ميت الهمة، مقتول العزيمة، لا نشاط عنده، يتمنى أن يتخلص من مستنقع الشهوات، وأن يسبح في بحر الأمان في طاعة الرحمن، إلا أنه لا يقوى على السير في درب الهداية وعلى تحمل المشاق التي فيه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وقد حاول كثيراً الالتزام بشرع الله المطهر، والصلاة والبعد عن الفتن وعن الفواحش، وغيرها من المعاصي والمنكرات، إلا أنه دائماً وأبداً تصاب محاولاته بالفشل الذريع، ولا يستطيع الاستمرار، بل لا بد من أن ينقطع في احدى مراحل الطريق، وإن انقطع بلغ اليأس من قلبه كل مبلغ، وشعر أنه لا فائدة تُرْجى له من الحياة، والله تعالى المستعان!! أنا قد اختصرت لكم حاله اختصارا، فهل عندكم من علاجٍ له أيها الفضلاء؟ جزاكم الله خيراً، وجعلكم مفاتيح للخير، وهداةً إلى الله تعالى ودالينَ عليه.
الجواب
أخي السائل: الذي أرسلته إلينا ليس سؤالاً، بل هو قطعة أدبية جميلة عالية الأسلوب رفيعة البيان، وهي تقدم وصفاً دقيقاً لحالة صاحبك، وتقدم مع الوصف التشخيصَ والتعليل، فلم يبقَ لي الكثير لأضيفه بعد ذلك كله
أنت قلت إن صاحبك لا يعاني من أزمة فهم وعلم، بل من مشكلة عمل وتطبيق، وهذا صحيح
ولعل مراقباً بعيداً يحكم على صاحبك حكماً قاسياً ويعتبره رقيق الدين ضعيف الإيمان، أما أنا فأراه على العكس من ذلك، وأحس بقوة إيمانه تخترق سطور رسالتك وتنطق بها كلماتها. إنه نموذج لشخص يؤمن بمبدئه إيماناً شديداً، لكن متطلبات النفس الضعيفة تعوقه عن الالتزام بتبعات هذا الإيمان. إنه صاحب إرادة هشة ضعيفة، ولو كان الذي يحمل مثلَ هذه الإرادة معدومَ الإيمان لوقع في كبائر المحرَّمات من أول يوم، غير أنه يحوم حولها ويقترب منها ثم لا يقع فيها. نعم، الذي يقترفه محرَّم، لكنه من صغائر الذنوب لا من كبائرها، ولو أنه أصر على الصغيرة لصارت كبيرة، لأنها لا صغائر مع الإصرار ولا كبائر مع الاستغفار، ولكنه يتوب ويعزم -كما يبدو من وصفك- ثم تضعف إرادته فينساق وراء شهواته ورغباته، فهذا ممّن يصحّ فيهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفّارة الذنب الندامة"، وقوله: "لو عملتم الخطايا حتى تبلغ خطاياكم السماءَ ثم ندمتم لتاب الله عليكم"، وقوله: "إن العبد ليعمل الذنب فإذا ذكره أحزنه، وإذا نظر الله إليه قد أحزنه غفر له ما صنع قبل أن يأخذ في كفارته بلا صلاة و لا صيام".
وهي كلها أحاديث ضعيفة، ولكن معناها ليس غريباً عن مفهوم التوبة في الإسلام، والنبي صلى الله يقول في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه تبارك وتعالى: "يا ابن آدم: إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي. يا ابن آدم: لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم: إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة"، وهو حديث صحيح، وله من بابه شواهد لا تحصى. إن باب التوبة في ديننا الرحيم العظيم لا يقارَن بسَعَته بابٌ، ولو أردت الاستقصاء لضاق بأحاديث التوبة هذا المقام، وإنما ذكرت الأحاديث الأولى -على ضعفها- لأنها جعلت "الندم" سبباً للمغفرة، والندم هو الخطوة الأولى في طريق التوبة، ولا يكون مع الندم إصرار واستكبار، لا يكون مع الندم إلا التوبة والاستغفار
لنركّز على موطن العلة إذن، وأنت عرفتها فذكرتها، وهذه هي بكلماتك: "إنه يتمنى صلاح نفسه، ويريد أن يعيش السعادة الحقيقية، ويريد أن يكون ناجحاً في حياته الدنيا والأخرى، غير أنه ميت الهمة مقتول العزيمة". هذا هو لب المشكلة: همة ميتة وعزيمة خائرة. فهل من علاج لهذا الداء؟
الجواب: نعم، وهو قد يكون علاجاً طويلاً وشاقاً، ولكن أرجو أن يكون فيه البرء والشفاء إن شاء الله
الصوفية اشتغلوا من قديم بهذا الأمر وسمَّوه "رياضة"، فإذا ذُكرت الرياضة عندهم لم تخطر ببالهم منافسات الجري وألعاب الكرة وغيرها مما يسميه الناس اليومَ رياضةً، بل فهموا منها "رياضة النفس ومجاهدتها"، وللغزالي كلام طويل في هذا الموضوع في "إحيائه"، وهو في ربع الكتاب الثالث الذي سمّاه "ربع المهلكات". ولست أنصح بقراءة "الإحياء" قراءة استسلام وقَبول على الجملة، ولكنْ قراءة نقد وانتقاء، فما كان فيه صالحاً نافعاً (وهو كثير) أخذنا به، وما كان من تخليطات الصوفية (وهو كثير أيضاً) فلا حاجة لنا به. الغزالي يعرّف هذه الرياضة في كتابه بأنها تكلُّف الإقبال على الأفعال الحميدة وتكلُّف الابتعاد عن الأفعال القبيحة، حتى يصير الإقبال على الأولى واجتناب الثانية طبعاً في النفس لا تكلفاً وتصنّعاً.
وخلاصة هذه الفكرة -بلغتنا العصرية- هي أن المرء إذا أكره نفسه على أمر صعب، ثم استمر في مجاهدة نفسه وحملها على الأمر نفسه مرة بعد مرة، فإنه يصير في النهاية أمراً تلقائياً يصنعه باسترخاء وبلا تعب؛ كمن يحمل نفسه على القيام لصلاة الفجر، فإنه يجد في هجر فراشه الدافئ والقيام للصلاة أول مرة صعوبة بالغة، وفي المرة الثانية تنقص هذه الصعوبة شيئاً يسيراً، واحداً بالمئة مثلاً، ثم تنقص قليلاً في المرة الثالثة وفي الرابعة، وما تزال كذلك في نقصان حتى يصير القيام للصلاة أمراً يسيراً هو إلى العادة أقرب منه إلى التكلف
وهذا كله ليس إلاّ "فن تقوية الإرادة"، وهو أمر ممكن بالممارسة. أنا شخصياً أعتقد أن "الإرادة" يمكن تقويتها كما تقوَّى أيُّ عضلة من عضلات الجسم بالتمرين المستمر، فالرياضي الذي يريد امتلاك ذراعين قويتين يمارس تمارين الضغط بصورة متكررة، فيتمدد على بطنه ويثبت ذراعية بحذاء صدره ويشد قامته، ثم يحرك جسمه ارتفاعاً عن الأرض وانخفاضاً، مرة بعد مرة. ولكنه لا يبدأ بخمسين "ضَغْطة" منذ اليوم الأولى، فإنه لن يطيقها، بل يبدأ باثنتين أو بثلاث ويداوم عليها أياماً، ثم يزيدها ضَغْطة أخرى ذات يوم ويستمر أياماً، ويكرر الأمر على هذه الصورة، فما يزال يزيد عدد الضغطات واحدة في كل عدة أيام ويحمل نفسه عليها، حتى يأتي يوم تصبح فيه الضغطات الخمسون بمثل سهولة الثلاث يوم بدأ أول مرة
ما فعله هذا الرياضي بعضلات ذراعيه هو ما يمكن أن يفعله أي واحد بإرادته، فإذا كان ضحية للتدخين وكان من عادته أن يدخن في اليوم ثلاثين دَخينة فإنه يقرر أن يدخن في أحد الأيام تسعاً وعشرين، ويقاوم رغبته في الدخينة الإضافية مهما يكن إلحاح نفسه، ويكرر الأمر نفسه من الغد وفي الأيام التي بعده، وفي اليوم الخامس ينقص دخينة أخرى فتصبح حصته ثمانياً وعشرين، وما يزال يقاوم رغبة نفسه بإرادته حتى يصل إلى ترك التدخين كله.
فليصنع صاحبك الأمرَ نفسه مع ما ابتُلي به من أمور: ليقاوم رغبته في النوم والغياب عن واحدة من المحاضرات مرة في الأسبوع، وليداوم على ذلك أسابيع، ثم ليصنع ذلك مع محاضرتين في الأسبوع ويستمر على ذلك أسابيع، وما يزال يزيد التزامه بالدوام قليلاً قليلاً حتى يألفه ويهجر الغياب. وليصنع بما يمارسه من عادة السوء الصنيع نفسه: إذا كان من عادته أن يكرر الأمر يوماً بعد يوم فليجاهد نفسه على دفعه يوماً واحداً في كل مرة. فإذا نجح في ذلك وصار يصنعه في الثلاثة الأيام مرة فليدفعه يوماً آخر، وليَثْبت على ما اكتسبه حتى يصير هيناً عليه أن يصنعه في الأربعة الأيام مرة... وما يزال يباعد بين الفعل والفعل حتى يجد أنه يعيش الأيام الطوال مرتاحاً خالي البال بلا شيء من ذلك، فيألف حياته الجديدة ويترك ما كان منه.
هذا الأسلوب ينجّي صانعه من النكسات المؤلمة، لأن القَسْر والقهر الشديدين قد لا تحتملهما النفس الضعيفة فتسقط وتتراجع، أي أنه لو عزم على ترك ما يفعله فجأة والانقطاع عنه بلا تدرج ولا تمرين فربما لا ينجح في الثبات على الوضع الجديد، فإذا ضعف فانتكس وعاد إلى قديمه أصابه اليأس والإحباط، وأنت نفسك أشرت إلى شيء من هذا حين قلت: "تصاب محاولاته بالفشل الذريع ولا يستطيع الاستمرار، بل لا بد من أن ينقطع في إحدى مراحل الطريق، وإن انقطع بلغ اليأس من قلبه كل مبلغ وشعر أنه لا فائدة تُرْجى له من الحياة". ولو كان صاحبَ إرادة قوية صلبة لكان احتمال نجاح "الانقطاع المفاجئ عن العمل السيئ" احتمالاً كبيراً، أمَا وقد علمنا أن إرادته دون ذلك قوةً فلا يحسن أن نمشي به في طريق يزيد فيه احتمال الانتكاس والارتداد، وخيرٌ له أن يسلك طريق التدرج والتمرين.
هذه هي الطريقة الوحيدة لتقوية الإرادة: المران والمثابرة. والإرادة إذا قَوِيَت أحالت الإنسان غيرَ الإنسان، حتى ليجد المرء أنه قد وُلد خَلْقاً آخر جديداً غير ما عهد من قبل. على أن من المناسب أن أشير هنا إلى أن علماء النفس لا يعترفون بهذه "الإرادة" بالصورة التي وصفتُها آنفاً، وهم إذا استخدموا هذا المصطلح لم يستخدموه إلا للتفريق بين السلوك الذي يسلكه المرء بإرادته، فهو عندهم "سلوك إرادي"، والسلوك الذي يسلكه بغير إرادة منه، وهو عندهم "سلوك لاإرادي". وهم يعلّلون عمل المرء حين يُقدم على أمر من الأمور وينصرف عن آخر سواه بأنه يستجيب لرغبة ويُعرض عن رغبة، فهي عندهم "رغبات" يختار منها المرء ويدع؛ فإذا رنَّت ساعة المنبِّه إلى جنب سريرك صباحاً تنازعَتْك رغبةُ البقاء في السرير والاستمرار في النوم من جهة، ورغبةُ المحافظة على الوظيفة وكسب المال من جهة، وبالنتيجة تنتصر رغبتك الثانية على الأولى، فتقوم من سريرك كارهاً وتجهّز نفسك وتذهب إلى العمل. هذا مثال بسيط لما نقوم به كلما اضطررنا إلى الموازنة بين رغبة ورغبة.
وهذا الذي يقوله علماء النفس صحيح، فالإرادة معناها أعَمُّ من أن يُحصَر في الأمر الصعب النافع، لأنك تحتاج إلى الإرادة لكي تقرأ كتاباً مفيداً وتحتاج إلى الإرادة لتشاهد فلماً سخيفاً، والمرء يحتاج إلى الإرادة للذهاب إلى المسجد أو إلى الملهى، وبالإرادة يصوم مَن صام وبالإرادة يفطر من أفطر... وهكذا نجد أن كل عمل نقوم به "مختارين" نحتاج إلى "الإرادة" للقيام به. إذن لنخصص المصطلح الذي نستعمله في المألوف من أحاديثنا وكتاباتنا فنقول: "تقوية إرادة الخير"، والخير كلمة عامة تصلح لأمور الدنيا وأمور الآخرة.
وقد وجدت أن أفضل ما يوفَّق به بين العلم النفسي والنص القرآني هو أن نعتبر أن جماع الرغبات الخيِّرة -بالتعبير النفسي- هو "النفس اللوَّامة" التي ذكرها القرآن، وجماع الرغبات الشريرة هو "النفس الأمّارة بالسوء". وعندما نقوّي إرادة الخير في نفوسنا، أو نقوي الرغبات الخيّرة والنوازع الصالحة في نفوسنا، فإن كل ما نصنعه في الحقيقة هو أننا ننصر النفسَ الصالحة على النفس الطالحة، فنجعل للأولى على حياتنا الأمر والسلطان ونحكم على الثانية بالضعف والخذلان. وما هما بنفسين على التحقيق، فليس للواحد من الناس إلا نفس واحدة، ولكنها ميول للنفس إلى جهة الخير أو إلى جهة الشر: {ونفسٍ وما سوّاها فألهَمَها فُجورَها وتقواها}، {وهَدَيْناه النَّجْدين}، وكلما عزّزنا إرادة الخير ورغبات الخير في أنفسنا تضخمت فيها النفس السوية الصالحة اللوّامة، وتضاءلت النفس الأمّارة بالسوء، فتحقق لنا -بإذن الله- الخير والفلاح في الدنيا وفي الآخرة.
أنت قلت إن صاحبك لا يعاني من أزمة فهم وعلم، بل من مشكلة عمل وتطبيق، وهذا صحيح
ولعل مراقباً بعيداً يحكم على صاحبك حكماً قاسياً ويعتبره رقيق الدين ضعيف الإيمان، أما أنا فأراه على العكس من ذلك، وأحس بقوة إيمانه تخترق سطور رسالتك وتنطق بها كلماتها. إنه نموذج لشخص يؤمن بمبدئه إيماناً شديداً، لكن متطلبات النفس الضعيفة تعوقه عن الالتزام بتبعات هذا الإيمان. إنه صاحب إرادة هشة ضعيفة، ولو كان الذي يحمل مثلَ هذه الإرادة معدومَ الإيمان لوقع في كبائر المحرَّمات من أول يوم، غير أنه يحوم حولها ويقترب منها ثم لا يقع فيها. نعم، الذي يقترفه محرَّم، لكنه من صغائر الذنوب لا من كبائرها، ولو أنه أصر على الصغيرة لصارت كبيرة، لأنها لا صغائر مع الإصرار ولا كبائر مع الاستغفار، ولكنه يتوب ويعزم -كما يبدو من وصفك- ثم تضعف إرادته فينساق وراء شهواته ورغباته، فهذا ممّن يصحّ فيهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفّارة الذنب الندامة"، وقوله: "لو عملتم الخطايا حتى تبلغ خطاياكم السماءَ ثم ندمتم لتاب الله عليكم"، وقوله: "إن العبد ليعمل الذنب فإذا ذكره أحزنه، وإذا نظر الله إليه قد أحزنه غفر له ما صنع قبل أن يأخذ في كفارته بلا صلاة و لا صيام".
وهي كلها أحاديث ضعيفة، ولكن معناها ليس غريباً عن مفهوم التوبة في الإسلام، والنبي صلى الله يقول في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه تبارك وتعالى: "يا ابن آدم: إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي. يا ابن آدم: لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم: إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة"، وهو حديث صحيح، وله من بابه شواهد لا تحصى. إن باب التوبة في ديننا الرحيم العظيم لا يقارَن بسَعَته بابٌ، ولو أردت الاستقصاء لضاق بأحاديث التوبة هذا المقام، وإنما ذكرت الأحاديث الأولى -على ضعفها- لأنها جعلت "الندم" سبباً للمغفرة، والندم هو الخطوة الأولى في طريق التوبة، ولا يكون مع الندم إصرار واستكبار، لا يكون مع الندم إلا التوبة والاستغفار
لنركّز على موطن العلة إذن، وأنت عرفتها فذكرتها، وهذه هي بكلماتك: "إنه يتمنى صلاح نفسه، ويريد أن يعيش السعادة الحقيقية، ويريد أن يكون ناجحاً في حياته الدنيا والأخرى، غير أنه ميت الهمة مقتول العزيمة". هذا هو لب المشكلة: همة ميتة وعزيمة خائرة. فهل من علاج لهذا الداء؟
الجواب: نعم، وهو قد يكون علاجاً طويلاً وشاقاً، ولكن أرجو أن يكون فيه البرء والشفاء إن شاء الله
الصوفية اشتغلوا من قديم بهذا الأمر وسمَّوه "رياضة"، فإذا ذُكرت الرياضة عندهم لم تخطر ببالهم منافسات الجري وألعاب الكرة وغيرها مما يسميه الناس اليومَ رياضةً، بل فهموا منها "رياضة النفس ومجاهدتها"، وللغزالي كلام طويل في هذا الموضوع في "إحيائه"، وهو في ربع الكتاب الثالث الذي سمّاه "ربع المهلكات". ولست أنصح بقراءة "الإحياء" قراءة استسلام وقَبول على الجملة، ولكنْ قراءة نقد وانتقاء، فما كان فيه صالحاً نافعاً (وهو كثير) أخذنا به، وما كان من تخليطات الصوفية (وهو كثير أيضاً) فلا حاجة لنا به. الغزالي يعرّف هذه الرياضة في كتابه بأنها تكلُّف الإقبال على الأفعال الحميدة وتكلُّف الابتعاد عن الأفعال القبيحة، حتى يصير الإقبال على الأولى واجتناب الثانية طبعاً في النفس لا تكلفاً وتصنّعاً.
وخلاصة هذه الفكرة -بلغتنا العصرية- هي أن المرء إذا أكره نفسه على أمر صعب، ثم استمر في مجاهدة نفسه وحملها على الأمر نفسه مرة بعد مرة، فإنه يصير في النهاية أمراً تلقائياً يصنعه باسترخاء وبلا تعب؛ كمن يحمل نفسه على القيام لصلاة الفجر، فإنه يجد في هجر فراشه الدافئ والقيام للصلاة أول مرة صعوبة بالغة، وفي المرة الثانية تنقص هذه الصعوبة شيئاً يسيراً، واحداً بالمئة مثلاً، ثم تنقص قليلاً في المرة الثالثة وفي الرابعة، وما تزال كذلك في نقصان حتى يصير القيام للصلاة أمراً يسيراً هو إلى العادة أقرب منه إلى التكلف
وهذا كله ليس إلاّ "فن تقوية الإرادة"، وهو أمر ممكن بالممارسة. أنا شخصياً أعتقد أن "الإرادة" يمكن تقويتها كما تقوَّى أيُّ عضلة من عضلات الجسم بالتمرين المستمر، فالرياضي الذي يريد امتلاك ذراعين قويتين يمارس تمارين الضغط بصورة متكررة، فيتمدد على بطنه ويثبت ذراعية بحذاء صدره ويشد قامته، ثم يحرك جسمه ارتفاعاً عن الأرض وانخفاضاً، مرة بعد مرة. ولكنه لا يبدأ بخمسين "ضَغْطة" منذ اليوم الأولى، فإنه لن يطيقها، بل يبدأ باثنتين أو بثلاث ويداوم عليها أياماً، ثم يزيدها ضَغْطة أخرى ذات يوم ويستمر أياماً، ويكرر الأمر على هذه الصورة، فما يزال يزيد عدد الضغطات واحدة في كل عدة أيام ويحمل نفسه عليها، حتى يأتي يوم تصبح فيه الضغطات الخمسون بمثل سهولة الثلاث يوم بدأ أول مرة
ما فعله هذا الرياضي بعضلات ذراعيه هو ما يمكن أن يفعله أي واحد بإرادته، فإذا كان ضحية للتدخين وكان من عادته أن يدخن في اليوم ثلاثين دَخينة فإنه يقرر أن يدخن في أحد الأيام تسعاً وعشرين، ويقاوم رغبته في الدخينة الإضافية مهما يكن إلحاح نفسه، ويكرر الأمر نفسه من الغد وفي الأيام التي بعده، وفي اليوم الخامس ينقص دخينة أخرى فتصبح حصته ثمانياً وعشرين، وما يزال يقاوم رغبة نفسه بإرادته حتى يصل إلى ترك التدخين كله.
فليصنع صاحبك الأمرَ نفسه مع ما ابتُلي به من أمور: ليقاوم رغبته في النوم والغياب عن واحدة من المحاضرات مرة في الأسبوع، وليداوم على ذلك أسابيع، ثم ليصنع ذلك مع محاضرتين في الأسبوع ويستمر على ذلك أسابيع، وما يزال يزيد التزامه بالدوام قليلاً قليلاً حتى يألفه ويهجر الغياب. وليصنع بما يمارسه من عادة السوء الصنيع نفسه: إذا كان من عادته أن يكرر الأمر يوماً بعد يوم فليجاهد نفسه على دفعه يوماً واحداً في كل مرة. فإذا نجح في ذلك وصار يصنعه في الثلاثة الأيام مرة فليدفعه يوماً آخر، وليَثْبت على ما اكتسبه حتى يصير هيناً عليه أن يصنعه في الأربعة الأيام مرة... وما يزال يباعد بين الفعل والفعل حتى يجد أنه يعيش الأيام الطوال مرتاحاً خالي البال بلا شيء من ذلك، فيألف حياته الجديدة ويترك ما كان منه.
هذا الأسلوب ينجّي صانعه من النكسات المؤلمة، لأن القَسْر والقهر الشديدين قد لا تحتملهما النفس الضعيفة فتسقط وتتراجع، أي أنه لو عزم على ترك ما يفعله فجأة والانقطاع عنه بلا تدرج ولا تمرين فربما لا ينجح في الثبات على الوضع الجديد، فإذا ضعف فانتكس وعاد إلى قديمه أصابه اليأس والإحباط، وأنت نفسك أشرت إلى شيء من هذا حين قلت: "تصاب محاولاته بالفشل الذريع ولا يستطيع الاستمرار، بل لا بد من أن ينقطع في إحدى مراحل الطريق، وإن انقطع بلغ اليأس من قلبه كل مبلغ وشعر أنه لا فائدة تُرْجى له من الحياة". ولو كان صاحبَ إرادة قوية صلبة لكان احتمال نجاح "الانقطاع المفاجئ عن العمل السيئ" احتمالاً كبيراً، أمَا وقد علمنا أن إرادته دون ذلك قوةً فلا يحسن أن نمشي به في طريق يزيد فيه احتمال الانتكاس والارتداد، وخيرٌ له أن يسلك طريق التدرج والتمرين.
هذه هي الطريقة الوحيدة لتقوية الإرادة: المران والمثابرة. والإرادة إذا قَوِيَت أحالت الإنسان غيرَ الإنسان، حتى ليجد المرء أنه قد وُلد خَلْقاً آخر جديداً غير ما عهد من قبل. على أن من المناسب أن أشير هنا إلى أن علماء النفس لا يعترفون بهذه "الإرادة" بالصورة التي وصفتُها آنفاً، وهم إذا استخدموا هذا المصطلح لم يستخدموه إلا للتفريق بين السلوك الذي يسلكه المرء بإرادته، فهو عندهم "سلوك إرادي"، والسلوك الذي يسلكه بغير إرادة منه، وهو عندهم "سلوك لاإرادي". وهم يعلّلون عمل المرء حين يُقدم على أمر من الأمور وينصرف عن آخر سواه بأنه يستجيب لرغبة ويُعرض عن رغبة، فهي عندهم "رغبات" يختار منها المرء ويدع؛ فإذا رنَّت ساعة المنبِّه إلى جنب سريرك صباحاً تنازعَتْك رغبةُ البقاء في السرير والاستمرار في النوم من جهة، ورغبةُ المحافظة على الوظيفة وكسب المال من جهة، وبالنتيجة تنتصر رغبتك الثانية على الأولى، فتقوم من سريرك كارهاً وتجهّز نفسك وتذهب إلى العمل. هذا مثال بسيط لما نقوم به كلما اضطررنا إلى الموازنة بين رغبة ورغبة.
وهذا الذي يقوله علماء النفس صحيح، فالإرادة معناها أعَمُّ من أن يُحصَر في الأمر الصعب النافع، لأنك تحتاج إلى الإرادة لكي تقرأ كتاباً مفيداً وتحتاج إلى الإرادة لتشاهد فلماً سخيفاً، والمرء يحتاج إلى الإرادة للذهاب إلى المسجد أو إلى الملهى، وبالإرادة يصوم مَن صام وبالإرادة يفطر من أفطر... وهكذا نجد أن كل عمل نقوم به "مختارين" نحتاج إلى "الإرادة" للقيام به. إذن لنخصص المصطلح الذي نستعمله في المألوف من أحاديثنا وكتاباتنا فنقول: "تقوية إرادة الخير"، والخير كلمة عامة تصلح لأمور الدنيا وأمور الآخرة.
وقد وجدت أن أفضل ما يوفَّق به بين العلم النفسي والنص القرآني هو أن نعتبر أن جماع الرغبات الخيِّرة -بالتعبير النفسي- هو "النفس اللوَّامة" التي ذكرها القرآن، وجماع الرغبات الشريرة هو "النفس الأمّارة بالسوء". وعندما نقوّي إرادة الخير في نفوسنا، أو نقوي الرغبات الخيّرة والنوازع الصالحة في نفوسنا، فإن كل ما نصنعه في الحقيقة هو أننا ننصر النفسَ الصالحة على النفس الطالحة، فنجعل للأولى على حياتنا الأمر والسلطان ونحكم على الثانية بالضعف والخذلان. وما هما بنفسين على التحقيق، فليس للواحد من الناس إلا نفس واحدة، ولكنها ميول للنفس إلى جهة الخير أو إلى جهة الشر: {ونفسٍ وما سوّاها فألهَمَها فُجورَها وتقواها}، {وهَدَيْناه النَّجْدين}، وكلما عزّزنا إرادة الخير ورغبات الخير في أنفسنا تضخمت فيها النفس السوية الصالحة اللوّامة، وتضاءلت النفس الأمّارة بالسوء، فتحقق لنا -بإذن الله- الخير والفلاح في الدنيا وفي الآخرة.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة