اقرأ...
في 18 من كانون الأول من كلّ عام يطالعنا العالم باليوم العالمي للغة العربية، لنحتفي بهذه اللغة الفريدة، اللغة التي نزل بها القرآن الكريم على قلب نبينا محمد ﷺ، ونتغنّى بأننا من أمة "اقرأ" والغالبية لا تقرأ، متحسّرين على الزمن الأول، متأسّفين على عهد مضى ومجد ضائع وزائل، نبكي الأطلال حينًا ونرثي حال لغتنا القابعة في زاوية العالم تشكو حالنا لا حالها... ليمضي بعدها اليوم فالشهر فنعود إلى سابق عهدنا وندور في عجلة الحياة ونذوب فيها ولمّا نعي معنى ما أمرنا الله تعالى به في قوله: "اقرأ....."
فمن هنا كانت بداية ارتحال إلى أوّل مكان نزل فيه الوحي، إلى الرحلة التي انطلقت من هناك، حيث الحديث عن مبدأ هذا الدين العظيم الذي أنزله الله تعالى ليخلّص البشريّة من الآثام التي علقت بها آنذاك، ومن العذابات والجهالات التي كانت تعيش فيها – وما أشبه اليوم بالأمس - لعلّنا ندرك حقيقة هذا الإنسان وكنهه كما أراد الله لنا أن نحيا، محاولة لمعرفة ذاتنا وغاية وجودنا في هذه الحياة وأن "نقرأ..."
فيوم كانت الإنسانية غارقةً في ظلماتٍ تندى لها الجبين؛ يقترف الإنسان فيها ما يقترفه بحقّ نفسه وبحقّ أخيه الإنسان، لا يقدّر ذاته، ولا يسمو بها إلّا بما تحكمه قوانين وضعيّة توارثها الناس جيلًا بعد جيل؛ قوانين تجعل الحاكم صاحب السلطان المطلق، وتجعل الناس عبيدًا لخدمته.
في تلك الحقبة كان ازدراء المرأة وتهميش دورها من أبرز مظاهر الظلم، لم يكن يستنكر ذلك أحد من عرب أو عجم، ولم يكن أحد يعطيها الحق الذي منحها الله عز وجل منذ أن خلقها لتؤدّي دورًا عظيمًا في إعمار الحياة.
وفي تلك البقعة البعيدة – التي لم يكن يُقام لها وزن بين الأمم – كانت تجتمع قبائل العرب، ولم يكن يميّزها سوى وجود بيت قديم نصبت حوله الأصنام تُعبد من دون الله. وفي خضمّ هذا الظلام، تبعثرت بقايا الأخلاق من المِلّة الإبراهيمية بين عُربٍ اختلطوا ببعض يهود ونصارى ينتظرون نبيًّا يخلّصهم، كلٌّ بطريقته.
هناك، في تلك الأجواء، كان النبيّ محمد ﷺ رجلًا حُبِّب إليه الخلاء، كما ذكرت السيدة عائشة رضي الله عنها. ولو تفكّرنا في حال رجلٍ يعيش تلك الظلمات، فما الذي يدفعه إلى اعتزال الناس أربعين يومًا يحنث ويتفكّر؟ أربعون يومًا – ليست يومًا ولا يومين – يقضيها في غارٍ وعرٍ يصعب على من يزوره أن يصعد إليه.
لا ندري كم من الوقت أمضاها قلب النبي ﷺ وهو يبحث ويسأل: من خلق هذا الكون؟ من أبدع هذا النظام؟ كم من ليلةٍ قضى يتأمّل السماء والصمت والجبال؟ لعلّ ذلك استمرّ سنةً، أو سنتين، أو أكثر أو أقل قبل أن يأتيه الأمر(اقرأ).
لكننا نعلم أنّ يومًا من أفضل أيام الدنيا أشرقت شمسه لتبدأ رحلة تغيير معالم الكون، أشرقت الدنيا بأول آيات تتلى من القرآن بقوله تعالى: {اقرأ}.
تخيّل ذلك المشهد: رجلٌ في أعلى الجبل، وحيد تمرّ به الساعات والأيام وربما لم يرَ فيها إنسيًّا، يأتيه مخلوق لم تألف عيناه رؤيته ولا نظيره ليغطّه إليه ثلاثًا وهو يأمره: "اقرأ" والإجابة النابعة من قلب عرف يقينًا بقدراته: "ما أنا بقارئ" ثلاث مرّات، والسؤال هو هو، والإجابة هي هي. كيف كانت حاله عليه الصلاة في ذلك الوقت؟!
اسمع ما روته عائشة عن الحبيب عليه الصلاة والسلام: ".... فَجَاءَهُ المَلَكُ فِيهِ، فَقالَ: اقْرَأْ، فَقالَ له النَّبيُّ ﷺ: فَقُلتُ: ما أنَا بقَارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقالَ: اقْرَأْ، فَقُلتُ: ما أنَا بقَارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقالَ: اقْرَأْ، فَقُلتُ: ما أنَا بقَارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} حتَّى بَلَغَ {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5]" (أخرجه البخاري)
وعلى الرغم ممّا كان يعاني منه النبي ﷺ إلا أنه : " ...رَجَعَ بهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ، حتَّى دَخَلَ علَى خَدِيجَةَ، فَقالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَزَمَّلُوهُ حتَّى ذَهَبَ عنْه الرَّوْعُ،..." (أخرجه البخاري)، رجع إلى واقعه وقد انتفضت في روحه جذوة الإيمان وقرأ بأمر من الله.
نزلت هذه الآيات على قلبٍ صافٍ، هو قلب النبي ﷺ الذي اصطفاه الله تعالى ليحمل هذا الدين ويبلّغه للعالمين.
فماذا قرأ النبي ﷺ وهو الأميّ الذي لا يعرف القراءة ولا الكتابة؟! أيعقَل أن يأمُره الله تعالى بأمر لا يمكنه فعله، لتكون بداية أمر هذا الدين بما لا يتطابق مع قدرات المأمور؟ وهو الذي كان يكرّرها : "ما أنا بقارئ"!
إذًا ندرك من الإجابة عن الأسئلة أن (القراءة) المطلوبة ليست قراءة حروف من مكتوب بخطّ على ورق أو ما شابه، إنما هي:
قراءة النفس، قراءة البيئة، قراءة الكون.... قراءة لحقيقة الوجود الفاني..
القراءة التي أرادها الله لنبيّه ﷺ في الغار، هي القراءة المطلوبة منّا اليوم أن نقرأ (باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق): فأنا وأنت وهو وهي وهم وهنّ... وجميع المخاطب والغائب والمتكلم والصامت كلنا مخلوقون لله تعالى. مخلوق ضعيف عاجز ناقص مخطئ، لا يعرف من الحاضر إلا القليل ويجهل الغيب كلّه. لم يختر يوم ميلاده ولم يملك الفرار من موته... مفتقر إلى خالقه، جاهل يبحث عن المعرفة، يبحث عن سرّ وجوده ولماذا هو موجود في هذه الدنيا! فمن أين تتحصّل عليها؟! عليك بالقراءة... وبإذن الله ستُزيل عنك الجهل الذي يرديك.
ولو كان إنسان اليوم يعرف القراءة والكتابة فهل هو المأمور والمقصود من الخطاب لنا؟
القراءة والكتابة ما هما إلا وسيلتان من الوسائل التي تضمّنها أمر الله بقوله: "اقرأ"، فمن خلالهما قد نصل إلى كنه القراءة الحقيقية التي أمر الله تعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم ومن خلفه أمّته إن أحسنا القراءة بفهمها وليس فقد قراءة الحروف الأبجدية المتصلة لتكوّن كلمات والكلمات لتصبح جملة والجملة فقرة والفقرة نصًّا بليغًا...
فيوم قرأها النبي ﷺ بما آتاه الله تعالى من قدرة على الفهم وإدراك المعاني، وعلم أنه أمام مواجهة لهذه العالم، كان التأكيد بقوله تعالى: {اقرأ وربّك الأكرم}، فهذا العلم الذي نزل عليك سيجلب لك العداوات الكثيرة ممن حولك وممن تعرف وممن لم تعرف، ولكن لا تتوقف عن القراءة فالله الذي كلّفك – والخطاب لكل مسلم – مؤيدّ لكل من يسير في هذا الطريق. فاليوم ونحن نقرأ هذه الآيات ندرك أن كل مسلم يفتح قلبه لكتاب الله فيقرأه كما أراد له الله أن يفهمه ويطبقه فهو محارب من قبل الكثيرين وكما يوقن بأنّ الله أنزل القرآن ليكون هو الدين الحقّ الذي يكّرَم به ويشرف من أخذه بحق.
فالقراءة باللغة العربية ليست شعارات لنتغنّى بها وليست إرثًا فقدناه وضاع بين ردهات التاريخ، ولا ولدًا أهملنا تربيته ففسق... اللغة العربية مفتاح التعرف على كنه إنسانيتنا، وحقيقة دنيانا، وما ينتظرنا بعد رحيلنا.
اللغة العربية ليست مجرد وسيلة للتعبير أو التواصل، بل هي مفتاحٌ للمعرفة، مفتاحٌ للهداية، مفتاحٌ لفهم النفس وفهم الكون.
إنّ القراءة التي أرادها الله ليست قراءة عابرة، بل قراءة متعمّقة تُخرج الإنسان من الظلمات إلى النور. القراءة التي تجعلنا نفقه أنفسنا، ونفقه من حولنا، وندرك أنّا مخلوقون لله.
فإلى كل من يُعنى بالتربية والتعليم عامّة وليس للمتخصّصين باللغة العربية، لا تجعلوا القراءة هدفًا وغاية، لا تجعلوا من اللغة مادة دراسية يختبر بها التلميذ ثم ينساها بعد تسليم الاختبار، أو من المواد العلمية أهدافًا تفتح آفاق الدنيا لهم بعيدًا عن أمر الله لنا (اقرأ).
اغرسوا فيهم بذرة المعرفة بالله في كل مادة ليقرؤوا العلوم (باسم ربّك) مرتبطة بما يوصلهم إلى الحقّ، فتنمو في نفوسهم – إن هيّأ الله لها أرضًا صالحة – فلا تدرون متى تزهر هذه البذور وتثمر.
ولنرجع إلى القراءة التي أمر الله بها، القراءة التي نزلت أول ما نزل على قلب سيدنا محمد ﷺ:
{اقرأ باسم ربك الذي خلق}.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"




اقرأ...
وقفـات.. قبل الممات والفوات!
فجرُ النصر في سورية… يومٌ طوى صفحةَ الطغيان إلى غير رجعة
الذكاء الاصطناعي والإفتاء عند الشباب المسلم المعاصر
الانتماء الوظيفيّ مقاربات في سُبل تنميته، وانعكاساتُه على بيئة العمل