بات التّعليم المدرسيّ طرفًا تربويًّا ينافس الأبوين في توجيه شخصيّة الطّفل أو الشّابّ، على امتداد السّنوات المنهجيّة، لـما يمتلكه من وسائل حديثة، فهذه الوسائل تستقطب الأبصار والأسماع بالمؤثّرات الحديثة القادرة على تحويل اللّون والحركة والصّورة والصّوت إلى جنودٍ في مملكة مترامية الأطراف، هي المدرسة. والمدرسة بالإضافة إلى ذلك تضمّ الطّالب إلى حضنها ساعاتٍ طويلةً، قد لا يملكها الأبوانِ مجتمِعَينِ. وثـمّة سبب آخر، وهو أنّ المدرسة تحوي ثلّة كبيرةً من الزّملاء والأصدقاء، يفوقون عددًا إخوةَ الطّالب وأخواته.
وهكذا تملك الـمدرسة غسلَ الأدمغة، أو بثَّ الشّوائبِ فيها! إنّها تشكِّل جزءًا كبيرًا من هويّة الطّالب من حيث يشعر هو أو لا يشعر، ومن حيث يشعر أبواه أو لا يشعران.
وإذا كانَت المدرسة ذلك الـمصنع الـتّربويّ الضَّخْمَ، فإنَّ أهمّ ما فيه مناهجُه الّتي تَرسم الخطط موزّعةً على سنوات الدّراسة، وتُضَمِّنُها المحتوى العِلميَّ والمحتوى الفِكريّ والمحتوى الـنّفسيّ، وَفقَ رؤيةٍ لا ينبغي أن يشوبها الاضطرابُ.
وإذا شئنا أن نتلمّس هويَّتنا الإسلاميّة العربيّة في مناهِج الـتّعليم ضمن أيّ مدرسة، فلا بدّ من معايير. ونحن في هذه الأسطر السّريعة نقتصر على مادّة اللّغة العربيّة، لأنّها وثيقة الصّلة بالهويّة بَداهةً.
أهمّ هذه المعايير أن نرى حضور الـنّصّ الـمُحقِّق لهذه الهويّة المنشودَةِ في حصص اللّغة العربيّة. فالسّياسة الـتّربويّة اللّغويّة في أيّ بلدٍ مُحتَرَم، لا تنظر إلى الـنّصوص على أنّها متونٍ لغويّة، أو أوعية ٌتعليميّة، يقتصر دورها على إدراج مفردات يتلقّاها الطّالب، أو عبارات يتدّرب لاحقًا على محاكاتها، وتِقْنيّاتٍ تلقّنُ التّحليل والـتّعبير. ينبغي أن تَغرس هذه الـنّصوص ثقافةَ الأمّة الّتي أنتجَتْها، ومنظومةَ القيم الّتي تسيّر النّاطقين بها. وإذا عُدنا إلى أساس جذر كلمة "نصّ" في المعاجم، وجدنا دلالة الارتفاع، والوضوح، وهذا يعني أنّ نصوصنا ينبغي أن تكون علامة بيّنة على انتمائنا، وألّا تكون ضبابيّة، من دون نكهة أو لون.
ولهذا لا بدّ من حضور القرآن الكريم الّذي شكّل حيّزًا كبيرًا في شواهد المعاجم وكتب الصّرف والـنّحو والبلاغة، وقدّمت الدّراسات الإعجازيّة حولَه نظريّات نقديّةً تكشفُ أسرار الإبداع في أيّ نصّ. وفي القرآنِ تتحقّقُ نواةُ الانتِماء الأصيل، والثّوابتُ القادرة على ترسيخِ الشَّخصيّة الّتي تعي كينونَتها بوضوح.
وثمّة حاجةٌ إلى الأحاديث الشّريفة الّتي جمَعَتْ بينَ السُّهولةِ والرّشاقة والبيان، وأرشدَتْ إلى تفاصيلِ الحياة الخاصّة، وحياة الأسرة، وحياة المجتمع، والحياةِ المتشوّقة إلى صلةٍ بالخالق القدير... وهلِ الهويّة إلّا هذا المزيجُ الصّالح؟
ويلي ذلك الـخطبُ الجليلةُ الّتي تعود بنا إلى سالفِ عصورنا الجميلة، وتتفاعل مع تاريخنا، والطّرائفُ والـنَّوادِرُ الّتي تسلِّط الضَّوءَ على جوانبَ ينبغي أن تُعلَم في بيئاتِنا القديمة، وسِيَرُ الشّخصيّاتِ العريقةِ في ماضينا من قادةٍ وعلماءَ وأدباءَ، حتّى يغنَمَ الطّالب من الـنّصّ بهاء العبارة، وسلاسة السّرد، وعُمْقَ المغزى.
إنّ في أكثر الكتبِ الّتي تُقذَفُ إلى أروقة المدارِس نصوصًا تجذبُ الطّلّاب عبرَ رشاقة الألفاظ، وتشويقِ الأحداث، ولكنّها تحوي عِبَـرًا هزيلةً، تندرج غالبًا في تنمية الذّات، وإدارتها، وضمان استقرار الفرد، ولا ترتبط بالبُعْدِ الـجَماعيّ، وهمّ الأمّة. هذه الـنّصوص تجعلُك تشعر أنّ مصنّفي هذه الكتبِ لا يريدون إنضاجَ هذا المتعلِّم إلّا بعدَ حينٍ، وينظرونَ إليه على أنّه طفلٌ مدلَّلٌ حتّى يثبتَ العكس. وهذا يخالِف ما تقتضيه هويّتنا الّتي أنتجَتْ عبر التّاريخِ قادةً صغارًا في السّنّ، تُصغي إلى أوامِرهم جيوشٌ، وتُدرَسُ في الكلّيّات العسكريّة المعاصرةِ خُططهم الحربيّة، وأنتَجَتْ علماء يصنّف أحدُهم من الكتب ما يفوقُ تصنيفَ عشراتِ المؤلِّفينَ مجتمِعين!
إنّنا لنقع في الكتب الّتي بين أيدينا على نصوصٍ كثيرة تُبرز الصّراع بين الأجيال إبرازًا غير بريء، لإحداث بينونة بين الأبناء والآباء! ونقع على نصوصٍ تبالِغُ في الانفتاح على الآخر، حتّى تخال أنّ الدّينَ الإبراهيميّ يظهر بين سطورها، ونقع على نصوصٍ تذكر الـتّفاعل الثّقافيّ بين الشّعوب في حلّة غريبةٍ توحي بأنّ على شعوب المنطقة التّعلّق بكلّ وافِدٍ ثقافيّ، وإن مسّ الهويّة! ونقع على نصوصٍ تصف المرأة بأوصاف حسّيّة مَعيبة، تحت باب الغزل والفنّ!
ويتذرّع أصحاب هذه الكتب، ومَن خلفَها مِن واضعي المناهج، بأنّه لا بدّ من مسايرة الواقِع! ولم يخبرْنا هؤلاء أو أولئك لماذا تغيب الـنّصوص الّتي تذكر مقارعة المحتلّ الصّهيونيّ، ونحن في بلاد ذاقت وتذوق ويلاتِ هذا الاحتلال؟ ولماذا نجِد نصوصًا تذكر آلهة الإغريق، وخرافات الوثنيّين؟ ولماذا نجد نصوصًا تشكِّكُ في يوم البعْثِ؟ أهذا واقعُنا؟
وفي الختام، لسْتَ أيّها المدرّس بالضّرورة شاعرًا أو أديبًا، ولكنّك في اختيارك الـنّصّ الملائم لهويّة الأجيال المتلاحقة، مَن المقرّر، أو من خارجه، تقوّم الخلل، فأرِنا بأْسَك.
هل تعبّر هوّية الـنّصوص عن هويّتنا في مناهجنا الدّراسيّة؟
اقرأ...
وقفـات.. قبل الممات والفوات!
فجرُ النصر في سورية… يومٌ طوى صفحةَ الطغيان إلى غير رجعة
الذكاء الاصطناعي والإفتاء عند الشباب المسلم المعاصر