ورست سفينتها!
... وتمضي سفينتها في بحر هائج... ولكن إلى أي اتجاه؟!! هل سترخي الأشرعة للرياح تحملها حيث تشاء فترسو بها في أي ميناء؟ أم توقظ الربان من سكره لعله يدرك أن الخطر الداهم محدقٌ بهم فيصحو مما هو فيه ويعيد السفينة إلى المسار السليم؟! أم تتجه بنفسها - مستعينة بالله - لتلتمس النجاة بتوجيه السفينة إلى بر الأمان وحدها؟
واستبعدت الفكرة الأولى وانتفضت من مكانها كمن لدغته أفعى، فكيف لها أن ترخي الأمور وتلقي بيدها مستسلمة يائسة بائسة؟! لا والله لن تفعل على الرغم من صعوبة الحال الذي تعيشه أسرتها جراء ذلك التحول في حياة زوجها منذ أكثر من شهرين؛ إذ لم يعد ذاك الزوج الذي عرفته ولم يعد ذاك الأب الحاني الذي أَلِفَتْه، ولولا أنها تحفظ رسمه لأنكرت ما رأت البارحة بعينيها حين دخل إلى البيت واتجه إلى غرفته بلهفة من غير أن يلتفت إلى ابنته التي أقعدها المرض في كرسي متحرك... لم تكن لتصدق لو أن أحداً أخبرها بأن زوجها تجاهل ابنته ذات الربيع السادس حين أقبلت عليه تزف إليه خبر تفوقها في صفها، وهي فرحتها الأولى في التميز والتألق، ولكنه بادلها الفرح بابتسامة سقيمة ارتدّت عليها فأورثتها استياء وعبوساً فأوت إلى حضن أمها تشكو من جفوة أبيها وبعده عنها...
وكيف لها أن تنكر تلك الصاعقة التي نزلت على ابنها حين كان يلهو بسيارته الجديدة فدخلت عن غير قصد منه إلى غرفة المكتب حيث صار والده يمضي أكثر وقته... فما كان من هذا الأخير إلا أن انهال عليه بسياط من الكلمات النابية التي أذهلت الفتى وأفزعته فلم يعد يجرؤ على اللعب حال وجود والده في المنزل!!
وتنفست بعمق محاولة استرجاع تلك الأيام التي اختزنتها بفرح وسرور... تلك الأيام التي تزينت بحبه فكانت بحق أروع أيام حياتها...
لقد كان نِعم الزوج لها.. إذا نظر إليها قرأ في عينيها ما يختلج في نفسها، وإذا طلبت لبى ما ترجوه بسرور، وإذا تألمت واسى مرضها، وإذا اختلفا قارب في الآراء حتى يقنعها أو تقنعه... وفي كل الأحوال كانا يرجوان حياة طيبة معاً..
ويوم رزقا بابنتهما وعلما بأنها مريضة ضمَّها إلى صدره والحمد يلف كيانه... فما تذمر وما تأفف وإنما غمرها برحمته وعطفه...
أيام مضت وهي تبسم رغم ما حملت من المتاعب والمشاق... كان الهم يتلاشى بالاستعانة بالله وبتعاونهما على البر والتقوى...
أما اليوم فمن ذا يواسي أنينها ومن ذا يؤنس بكاءها؟!.. وهي تبكي فَقْدَ الحبيب والزوج والأب الحاني على أطفالهما!
لم يعد الزوج إلا خيوطاً ملئت بألوان فاستحال شبحاً يدخل البيت ليثقل عليه بظلال الرهبة والصمت ليخلو بنفسه مع ذلك الجهاز في صومعته، لا يسمح لأحد بالاقتراب منهما، ويا ويح من تسوّلُ له نفسه أن يقطع عليه تلك الهالة من الاسترخاء الروحي...
آه من ذلك الجهاز وما يحمله من برامج تدخل إلى أعماق النفس فتثير فيها مكنونات تشوه الواقع فينقلب المرء رافضاً لما يعيشه، متذمراً من أقل العقبات، ملقياً بالمسؤولية عن كاهله، وكأنه الشخص الوحيد المعذب في الحياة... ويصبح المسكين أسير عالم من الأرقام تعلو به وتهبط في ملذات السراب..
فماذا تفعل؟! وكيف يمكنها أن تُخرج زوجها من تلك البقاع الموحلة وهو لا يعتبر وجودها إلا عبئاً ألقي عليه فاحتمله دهراً وقد آن الأوان ليستريح منه؟!...
ماذا تفعل وقد أدَركَتْ أن الرجل إذا عَمِيِتْ بصيرته بِهَوى نفسه وشغفها بشهواتها لم يعد يرى ولا يبصر سوى رغبته في إرضاء نفسه، فينسى كل من يُحيط به ولا يذكر من العالم إلا ذاته!!..
... كان الفجر يؤذِن بالبزوغ عندما انقدحت في ذهنها بارقة أمل بفرج قريب... لن تترك الربان في غفلته ولن تقود السفينة بمفردها... بل ستبدأ بعملية إنقاذ تبدأ بالاستعانة بالله سبحانه وتعالى...
كيف لا والسحر موعد اللقاء بمن لا يغفل ولا ينام؟! وهي اللحظات التي لا يدعو فيها قلب مؤمن إلا استجاب المولى لدعاء من رجاه...
مهمتها ليست سهلة، وعليها أن تحتمل ما قد تنوء الجبال من حمله، فلن يكون من اليسير أن يعود زوجها إلى ما كان عليه بلحظة تتمناها...
وعبرت إليه تبحث عنه في تلك المتاهات، فألفتْه وقد رحلت نفسه في ذلك العالم تاركةً الجسد يتحرك في رغبة بالرحيل معها... فعبّر لها عن استيائه لوجودها باللامبالاة، فتحاملت على نفسها وابتسمت له وربّتَتْ على كتفه وقالت له: "هل هي جميلة؟"
نطقت بهذه الكلمات وفيها بركان يغلي، ما هدّأه إلا تلك القلوب البريئة التي أخلدت للنوم تلتمس أن تشرق شمس فتمحو غبار إهمال الأب وبُعده عنها...
كادت الدهشة تصعقه عندما سمع منها هذه الكلمات فرد عليها: "أتعرفينها؟!".
- بالطبع لا، ولكنها لو لم تكن كذلك لما حدّثْتَها؛ فعيناك لا تقعان إلا على جميل"...
نظر إليها يتأمل بريق عينيها... كم مضى عليه وهو غافل عن التمتع بجمالها
وهنا ارتفع أذان الفجر فاخترق اضطرابات النفس... وهدأت العاصفة التي كانت تهيج بداخلها... فقد عرفت اتجاه الميناء الذي سترسو فيه...
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن