بابا كنز
بابا كنزٌ غالي iiالثمنِ
ولنا عِزٌ حلو المننِ
عاش البابا طول الزمنِ
يُنشئ جيلاً يبني iiوطني
كلمات لا أعرف من كتبها... ولكني ما زلت أردّدها إلى الآن... حفظتها عن ظهر قلب من كتاب القراءة عندما كنت في المرحلة الابتدائية...
هذه الكلمات تذكّرني بموقف حدث معي أيامها حين صادف أن كان موضوع إحدى الحصص الدراسية عن الأب، فبعد أن ردّدنا مع المعلمة المحفوظات «بابا كنز»، أخذَتْ تسأل تلاميذ الصف عن رأيهم في آبائهم؛ فبدأ كل تلميذ يتحدّث عن والده بفرح وإعجاب وفخرٍ، وحين كاد يحين دوري تملّكني الذعر.. لدرجة أنّ قلبي صارت تُسمَع ضرباته لقوة خفقانه.. وجسدي من الخجل يتصبّب عرقاً كأنّ حُمّى أصابته.... وجاء الخَلاص من الله حين رُنّ الجرس معلناً نهاية الحصة. فخرجتُ من الصف لا ألوي على شيء وكأني نجَوْتُ من حبل المشنقة..
أَصْدُقكُم القول أني شعرتُ بالخجل من التعريف بأبي..
ماذا أقول للمعلمة ولزملائي وزميلاتي عنه؟
إنه عاطل عن العمل.. وأخواتي الأكبر مني سناً هن اللاتي يعملن بعد أن توقّفن عن الدراسة قَسْراً.. ليُنفِقْنَ على المنزل.. وفوق هذا كله يقمن في بعض الأوقات بخدمته؟!
إنه يمكث طوال اليوم في المنزل نائماً أو مستمعاً إلى إحدى الإذاعات أو متابعاً بعض البرامج التلفزيونية ونشرات الأخبار، أو مستقبلاً الزوّار؟
إنه لم يحملني مرةً بين ذراعيه ولا إخوتي الأصغر مني.. ولم يتأمل ملامح وجوهنا وتقاسيمها يوماً.. بل لا يعرفها؟!
لم يكن أبي إلا رجلاً ضريراً ومشلولاً شللاً نصفياً.. نهش السرطان جسده نهشاً وأذاقه ألواناً من الآلام حتى تركه جلداً على عظم..
كم أتمنى أن يعود بي الزمن إلى الوراء.. إلى ذلك اليوم الذي سألتْ فيه المعلمة عن أبي.. لأقف وسط زملائي وزميلاتي وأمام معلمتي ممتلئة فخراً واعتزازاً قائلة لهم: صحيح أنّ والدي لم يكن سليل عائلة حافلة بالعلماء، ولم يحقِّق إنجازات تُذكر في حياته، إلا أنني فخورة بكونه أبي..
أبي كان يُعدّ من الأذكياء.. فقبل إصابته بالعمى كان محبّاً للقراءة، وكان عنده من الكتب ما لا يُعدّ ولا يحصى، وفي كل فن؛ وحتى بعد أن ابتُلي بالعمى واظب على سماع البرامج المفيدة ونشرات الأخبار... يواكب المستجدات في العالم، ويهتم بالاستماع إلى مسابقات المعلومات في التلفاز أو الإذاعات... وكان يعطي الإجابات الصحيحة قبل المشتركين... فاكتسب ثقافة واسعة جعلت الكثيرين عندما يأتون لزيارتنا يتحلّقون حوله ينصتون إليه بانبهار وإعجاب وهو يلقي على مسامعهم الأخبار والمعلومات التي لا يعرفها إلا قلّة من الناس، لدرجة أن بعض الصحف والمجلات حاولت إجراء مقابلة معه ولكنه رفض...
وأبي هو من كان يشرف على دراستنا رغم إعاقته... أتذكر حينما كنت أقعد بجانب سريره وبيدي كتاب الرياضيات، كان يرسم على الحائط حلول المسائل بعد أن يشرحها لي ويفكّ طلاسمها.. كم كنتُ أشعر بالفخر في اليوم التالي حينما تكون إجاباتي كلّها صحيحة... وقتها كانت تحدوني رغبة كبيرة في أن أقف وأقول للجميع: إنّ والدي الأعمى المشلول هو من ساعدني في حلّ المسائل تلك...
أبي هو مَن كنّا نلوذ به حين تغضب منا أمي فنقفز بسرعة على السرير نحتمي به فيردّها عنا رغم وجعه وآلامه.. أبي هو من كان يواسينا ويَجْبر خاطرنا عندما كانت أمي - لفقرنا - تخيط لنا الثياب فيتحسّسها ويُثني على جمالها، راسماً بسمة على شفاهنا... أبي هو من كان يجالسني وإخوتي الأصغر مني عندما اضطرّت أمي إلى العمل.. فكان يسرد على مسامعنا بعضاً من ذكرياته عن فلسطين وغيرها ولم نكن نملّ من سماعها حتى لو أنصتنا إليه العمر كلّه..
كان أبي أمثولة حيّة لنا في الصبر والثبات... أذكره مرة حينما قرر أن يشاطرنا صوم أحد أيام رمضان.. وقتها لم يبالِ بنصائح والدتي التي حذرته من مغبة الصوم؛ فهو مريض بالسرطان ويتناول أدوية خاصة، ولكنه أصرّ وصمّم.. كنا نرقبه لحظة بلحظة، وبالفعل أتمّ الصيام بعد أن بلغ منه التعب كل مبلغ.. كان حدثاً مؤثّراً ودرساً بليغاً لكل من تسوّل له نفسه الإفطار منا..
وكان قلب أبي ممتلئاً رضاً بقضاء الله تعالى، وكان دائم التمني بعد أن ابتُلي بالعمى أن يرزقه الله بمولود ليسميه (رضا).
هذا هو أبي... كم أتمنى لو طال به العمر.. لأقوم ببرّه كما أمر ديننا الحنيف.. ولأؤدي بعض حقوقه علينا.. ولكنه توفي ولمّا أبلغ التاسعة من العمر... ولا رادّ لقضاء الله... ولكنني وإخوتي نحاول ما استطعنا أن نبرّه بعد موته.. فها هي أختي قد حفظت القرآن الكريم، راجية من الله أن يكلِّل رأسه ورأس والدتي بتاج من نور يوم القيامة؛ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ القرآن وتعلّمه وعمل به أُلبس يوم القيامة تاجاً من نور ضَوْؤه مثل ضوء الشمس، ويُكسى والداه حلّتين لا تقوم بهما الدنيا فيقولان: بم كُسينا هذا؟ فيقال: بأخذ ولدكما القرآن» (المستدرك على الصحيحين)
نسأل الله تعالى أن يتغمّده برحمته ويغفر له ويتجاوز عن سيئاته وتفريطه في شبابه وأيام صحته... وعزاؤنا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن ربِّه: «من أذهبتُ حبيبتيْه (أي عينيه) فصبر فاحتسب لم أرضَ له ثواباً دون الجنة».
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن