حبٌّ أم وهـــمٌ!!
بقلم: سهير أومري
هل صادف أن كنتِ ذات يوم تائهةً في مسارات الحياة أو أن الحياة أغلقت في وجهكِ بعض أبوابها فالتقيتِ بأناس ساعدوك وأعانوك ومنحوك بوصلة الخير والرشاد؟!
هل صادف أن تعرضتِ لمواقف حزن وألم، وضاقت عليك الأرض بما رحبت، فوجدتِ يداً حانية تمسح دمعك وتشد أزرك فأصبحتِ بها أقوى وصرتِ لها مدينة؟!
هل صادف أن تعبتِ ويئستِ وصرتِ ترين الحياة بلون واحد والناس جميعاً بشكل واحد، وفي هذه الأثناء جاء من أضاء في قلبكِ شمعة أو نفث في روحك دفقة حياة، فصرتِ ذات عزيمة وأمل فعاد للحياة في عينيك ألوانها، وعاد للبشر أشكالهم؟!
كثيرون منا مرّوا بحالة مما ذكرت، وربما بالحالات كلها، وعندما التقينا بهؤلاء الرائعين أحببناهم وتعلقنا بمهوى خطاهم، وصرنا لا نقدر على العيش من دونهم، فهم متكأ لأرواحنا، ومرفأ ترسو عنده آلامنا، فحياتنا بقربهم صارت ذات لون ورائحة وطعم ومعنى، ومعهم صرنا نمتلك طاقة نستطيع بها التحليق فوق همومنا، وصرنا أقدر على مواجهة أحزاننا وآلامنا...
ثم تمضي الأيام ونحن ننعم بقربهم، ونسعد بعطفهم ورعايتهم، وهكذا يوماً بعد يوم تأخذ شعلةٌ ما بداخلنا تخبو تجاههم، فلا نعود نرى فيهم ما كنا نراه، شيئاً فشيئاً تتغير مفرداتنا في وصفهم وفي تقدير مكانتهم في حياتنا، فلا يعودون بالنسبة لنا أولئك المثاليين الرائعين، ولا يعود وجودهم بقربنا ترياقاً لحياتنا وسراً لاستمرارنا...!!
عندها نتألم: لماذا حدث ما حدث؟!...
نتوقف لنراجع حساباتنا، ونرحل في أعماقنا لنبصر الحقيقة...
هل أصاب قلوبنا شيءٌ من الكدر فتحولت عنهم؟
أم هم الذين تغيروا عما عرفناهم وعما كانوا عليه فمالت قلوبنا عنهم؟
ثم ندرك مع الأيام أن لا شيء من هذا أو ذاك قد حدث، فما نراه الآن فيهم ليس تغيراً طرأ عليهم، بل هو حالهم، كانوا كذلك منذ أول لحظة رأيناهم وتعرفنا إليهم، الأيام لم تغيرهم بل جعلتنا نراهم بشكل أوضح، ولا سيما أننا عندما عرفناهم كان الألم والحزن والتعب يغطي عيوننا بستارٍ من الوهم جعلَنا نراهم وفق حاجتنا تلك الكائنات السامقة التي لا تشوب صفاتها وأفعالها شائبة، والتي لا نستطيع العيش دونها.
نعم هذه هي حال الإنسان، فعندما تفتقر نفسه وتتعب وتحزن، فإن ألم الحزن والتعب يطفئ في داخله نور الحقيقة، فيتوهم أن من يساعده ويعطف عليه وَليٌّ من الأولياء... فيضفي عليه من الصفات ما هو بحاجة له، فيتعلق به، ويرى أن حياته لا معنى لها دونه، ويطلق على مشاعره عبارات الحب والشوق والهيام، حتى إذا زالت الهموم والأحزان، وبدأت الحقيقة ترسل نورها إلى عيون قلبه، أدرك أن من ساعده كان بشراً عادياً، وربما فيه من الصفات ما لا يحب وما لا يطيق، وما أخفى عنه هذه الصفات إلا ستارٌ سميكٌ من فقر روحه وتعب نفسه!
عندما ندرك هذا المعنى نغدو أكثر تبصراً وبصيرة، وأكثر وعياً لما يحدث داخلنا، فلا ننقاد لمشاعرنا في لحظات تعبنا وهمنا وحزننا، ولا نسدل ستار الوهم على عيوننا فنحكم على الأشخاص الذين يساعدوننا بأنهم ملائكة تسير على الأرض، فنتعلق بهم ونعيش قصة وَهْمٍ نسميها (الحب)، ونتخيل أن
حياتنا لا يمكن أن تستمر دونهم... بل نكون أكثر وعياً في تقييم الناس، وتحديد موقعهم الصحيح في حياتنا..
وبذلك نحصّن قلوبنا من الخيبات التي يمكن أن تزيد جراحها جراحاً، لنصبح أصلب عوداً، وأكثر تماسكاً وتوازناً، ونعود إلى الحقيقة التي فطر الله الناس عليها، وهي أن الروح لا تسكن إلا لخالقها...
عندها فقط ننزع ستار الوهم عن عيوننا، ونطبع على قلوبنا ختمَ لجوءٍ دائمٍ تجاه من أُمِرْنا أن نفرّ دوماً إليه، من لا يحول ولا يزول، ولا تبدله الأيام ولا الأعوام...
بهذه المعاني يمكننا أن نولد من جديد ونحن ندندن:
نَقِّلْ فُـؤادَكَ حيثُ شِئْتَ مِن الهَوَى
ما الحـبُّ إلاّ للحبيبِ الأَولِ
كم مَنْزلٍ في الأرضِ يألَفُهُ الفَتَى
وحَنينُهُ أبـــــــــداً لأوَّلِ مَنْـزِلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتبة سوريّة مقيمة في مصر..
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن