ليلة رأس السنة... في الميزان
يستعد الكثير من المسلمين في كل عام –إلا مَن رُحِم– لاستقبال العام الجديد من التقويم الميلادي بالاحتفال بهذه المناسبة على طريقة الذين لا يعلمون، غافلين عن تميُّز شريعتهم عما دونها، متناسين أن موقع قيادة البشرية قد أُسنِد إليهم بتكليفٍ إلهي، متّبعين غيرهم في عقائدهم وطقوس عباداتهم كالإمّعة، غير ملتفتين إلى تصادم تلك الطقوس مع جوهر عقيدتهم...
عن خلفيات ودِلالات عادات النصارى في احتفالات الميلاد ورأس السنة، وعن الجذور التاريخية لهذه المناسبة، حاورت «منبر الداعيات» الأستاذ محمد المعتصم بالله البغدادي أستاذ أصول الفقه والأديان والمذاهب في جامعة الجنان – طرابلس، وكان هذا اللقاء:
1. «منبر الداعيات»: ما الجذور التاريخية لما يسمى بأعياد الميلاد ورأس السنة؟
لا رَيب أنّ لكل أمة حضارتها وموقعها في المسار الحضاري وثقافتها وقيمها، وهي بذلك تحقق هويتها وخصوصيتها بين الأمم. ولكن ليست الأمة بمعزل عن بقية الأمم، فتنشأ بين أمم الأرض، كما بين حضاراتها وثقافاتها، علاقات من الهيمنة والسيطرة والخضوع والتأثّر والتأثير، وكل ذلك رهن موقعها من مسارها الحضاري العامّ.
وكما يقول ابن خلدون» فإن الأمم المغلوبة مولعة أبداً بتقليد الغالب في شعاره وزيّه وعاداته وقيمه وحتى لغته ومنهجه التفكيري لما تعتقد فيه من الكمال، وهذا ما قد يزعزع ثقتها بنفسها وعقيدتها وقِيَمها ومرتكزاتها الفكرية وفلسفتها في الحياة، ويدفعهَا باتجاه التقليد والمحاكاة مدّعية في ذلك أنها تتخلص من تقليد ماضيها وتحجُّرها على قيِمَه وثقافته، فضلاً عما في لفظة «حداثة» و«تنوير» و«مواكبة العصر» من إغراء واستهواء للكثيرين.
أما فيما يتعلّق بالجذور التاريخية لما يسمّى بأعياد الميلاد ورأس السنة؛ فإنّها قديمة جداً، وهي ظاهرة موجودة في حضارات وعقائد كثيرة قبل الإسلام. ولذا فإن حدث الولادة أو الميلاد ليس في بعض الأحيان مجرد حدث عادي وتاريخي، إنه حدث فريد يلتقي فيه الإلهي بالبشري، ويلزم من ذلك أن الإله قد: تجسد «في صورة بشرية» فلقد جاء في مطلع إنجيل يوحنا «والكلمة صار جسداً»، وفي ترجمة ثانية «صار بشراً».
ويُعبَّر عن الميلاد بالكريسماس Xmas التي ترجع إلى X في الرومانية الذي يُرمز له بالمسيح. ومسألة التجسّد أو ولادة الإله من المعتقدات القديمة التي تشترك في التاريخ نفسه وهو 25 كانون الأول. والروم في زمن قسطنطين كانوا يحتفلون بولادة إله الشمس «سول إنفكتوس» وكان يسمى بعيد «الساتورناليا», وتحول منذ هذا الزمن - ومع أول مجمع مسيحي مسكوني وهو مجمع نيقية - سنة 325 م - إلى يوم الميلاد ميلاد المسيح عليه السلام.
ويحقّ لنا – تاريخياً – أن نسأل: هل ولد المسيح عليه السلام في هذا اليوم؟
إن هناك مشكلة في التحديد. يقول المونسنيور روشين في أصول الشعائر المسيحية (ص 247) بأنه ليس من مصدر تاريخي موثوق يمكن الاعتماد عليه لتحديد التاريخ الصحيح لميلاد المسيح، ويعزو ذلك إلى الاهتمام بموته أكثر (عقيدتا الفداء والصلب). فكتب العهد الجديد منها الأناجيل لا تذكر هذا التاريخ. وهو تاريخ لم يعرف قبل قسطنطين. وكان كثير من آباء الكنيسة الأوائل يهاجمون عادة الاحتفال بالميلاد كالقديس «أوريجين». وفي بعض المصادر أنه لم يعلن تاريخ ميلاد المسيح إلا في عام 130م على لسان البابا «تيلسفورس».
ثم إن هناك اختلافاً بين الكنائس الشرقية والقبطية حول السنوات الكبيسة التي تقسم على 400 أو التي لا تقسم. وقد أعلن «ترتوليان» في 220 بعد الميلاد بأن المسيح قد مات في 25 آذار من سنة 29 بعد الميلاد، ثم زيد تسعة أشهر على ذلك فاعتبر في ما بعد 25 كانون الأول يوماً لولادة المسيح عليه السلام.
وهناك اختلافٌ ثانٍ في السنة التي ولد فيها ويكاد يُجمع المؤرخون على أن المسيح لم يولد في السنة الأولى.. وإنّما قبلها بأربع سنوات على الأقل .. وهناك من وصل في ذلك إلى 12 سنة قبل المسيح. أي أن المسيح عليه السلام قد ولد قبل الميلاد!!
فعادة الاحتفال بالميلاد ليست من تعاليم المسيحية الأولى باتفاق، وهي حادثة في الملّة بعد قرون وإن حاول بعض المفكرين المسيحيين أن يجد لها أصولاً في النصوص.
أما عادة الاحتفال برأس السنة فهي أيضاً منازَع فيها إذ لم تكن السنة تبدأ من أول كانون الثاني وإنما من نيسان، فضلاً عن أن هذه العادة - أو هذا العيد - تعود في جذورها إلى أمم كثيرة احتفلت برأس السنة قبل الميلاد كالفرس (النيروز) وبلاد ما بين النهرين والمصريين القدماء. والمسيحيون المتأخرون قد ربطوا بين رأس السنة والميلاد.
2. «منبر الداعيات»: ما هي دِلالات عادات النصارى فيما يسمى بعيد الميلاد ورأس السنة: بابا نويل، توزيع القطع النقدية على الأطفال، إطفاء الضوء وإعادة إنارته خلال الاحتفال، شجرة الميلاد والبلورات الحمراء التي تزين الشجرة...؟
اتخذ عيد الميلاد مع مرور القرون عادات رمزية تمثل معاني اجتماعية ودِلالات اقتصادية وقيماً أخلاقية نصرانية وربما إنسانية. فضلاً عن الدِّلالات الاعتقادية، وهي مقترنة بمفهوم العيد ومعانيه الرمزية التي تتسع أو تضيق بين فترة وأخرى.
فالميلاد هو ميلاد الإنسان الإله – في زعمهم - ورأس السنة متصلة بهذا العيد، وبابا نويل شخصية رمزية من إنتاج القرون الأخيرة. وأتوقف عند شجرة الميلاد؛ حيث إن هذا التقليد لا يرتبط بنص من العهد الجديد، بل الأعياد الوثنية الرومانية وتقاليدها التي قامت المسيحية بإعطائها معانيَ جديدة؛ فقد استخدم الرومان شجرة «شرابة الراعي» كجزء من زينة عيد ميلاد الشمس التي لا تُقهر، ومع تحديد عيد الميلاد أصبحت جزءً هاماً من زينة الميلاد، وتمّ اعتبار أوراقها ذات الشَّوك رمزاً لإكليل المسيح الذي وُضع على رأسه قبل الصَّلب – على حدِّ زعمهم – وثمرها الأحمر أو الكرات الحمراء رمزاً لدمه المهراق من أجلهم. ويذكر بعضهم في ذلك قصة كيف أن الرب كافأ شجرة الراعي فجعلها دائمة الخضار رمزاً للخلود وحين مدت أغصانها وأخفت العائلة المقدسة عندما كاد جنود هيرودوس أن يقبضوا على المسيح وأمه في ذهابهما إلى مصر.
واستخدام شجرة الميلاد يُرجعه البعض إلى القرن العاشر الميلادي في إنكلترا، وهي مرتبطة بمفاهيم الزراعة والخصوبة ... ثم انتشرت هذه العادة بأشكال مختلفة في أوروبا خاصة في القرن الخامس عشر في منطقة الألزاس في فرنسا؛ حيث اعتُبرت الشجرة تذكيراً بشجرة الحياة المذكورة في «سفر التكوين» في قصة آدم عليه السلام رمزاً للحياة والنور، ومن هنا عادة وضع الإنارة عليها. وقد تمّ تزيين أول الأشجار بالتفاح الأحمر والورود وأشرطة من القماش. وأول شجرة ذكرت في وثيقة محفوظة إلى اليوم كانت في ستراسبورغ سنة 1605م.
وتقول بعض الأخبار: إن راهباً من أعيان القرن السابع في ألمانيا هو الذي وضع هذا الرمز لشكلها المثلث للدِّلالة على الثالوث المسيحي، والعجب أن النبي «أرميا» عندهم في العهد القديم هاجم بشدة العادة الوثنية وهي قطع الأشجار وإحضارها إلى البيت وتزيينها بالفضة والذهب! (أرميا - 2:10-4).
3. «منبر الداعيات»: لو نتوقف بالتفصيل والبيان عند شخصية بابا نويل.
يرجع هذا التقليد إلى أصول وثينة جرمانية طوّرته المذاهب المسيحية وأضفت عليه طابعاً مسيحياً: ففي التقاليد الجرمانية كان الأطفال ينتظرون الإله ثور THOR الذي كان يأتي ليلة عيد الميلاد في 25 كانون الأول ويزور البيوت التي حضّرت له المذبح الخاص به (موقد النار)، ويحضر الهدايا للأطفال الذين علّقوا أحذيتهم الخشبية على الموقد.
ومـع المسيحيـة اشتُهرت قصة القديـس نيقولاوس (SANTA CLAUSE أو NOEL ) الذي ولد سنة 275م وكان أسقف «ميرا» وهي مدينة في آسيا الصغرى، وعاش في القرن الرابع الميلادي، ويُنقل عنه أنه كان يقوم ليلاً بتوزيع الهدايا والمؤن على الفقراء وعائلات المحتاجين دون أن تعلم هذه العائلات مَن الفاعل.
و«بابا نويل» اصطلاح فرنسي يرمز لهذه الشخصية وتعني «أب الميلاد»، وبعض الباحثين يُرجع ذلك إلى لفظة «عما نويل» التي تعني (الله معنا) التي أُطلقت على المسيح - عليه السلام - في الإنجيل بحسب «متّى». ويتخيل الناس «بابا نويل» شيخاً له لحية بيضاء وصاحب جسم قويّ شديد راكباً على عربة سحرية تجرّها غزلان ومن خلفها الهدايا، ويلبس ثياباً حمراء ويهبط من المداخن أو النوافذ وشقوق الأبواب. ويرجع تصور ذلك إلى الشاعر الأميركي (كلارك موريس) الذي كتب سنة 1822م قصيدة بعنوان: «الليلة التي قبل عيد الميلاد».
وفي عام 1860م قام الرسام الأمريكي (توماس ناست) بإنتاج أول رسم لبابا نويل «السانتا» المعروفة المشتهرة في أيامنا.
4. «منبر الداعيات»: متى دخل تقليد الاحتفال برأس السنة الميلادية على طريقة النصارى المجتمعات الإسلامية؟ وكيف سُمِح له بالانتشار؟
من الصعوبة بمكان تحديد «أول» دخول لهذه العادة أو هذا التقليد بلادنا، لكن السياق التاريخي العامّ يدل على أنه جاء مع المنصِّرين في الإرساليات التي دخلت بلادنا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، التي عملت على إنشاء المدارس، وذلك في زمن الدولة العثمانية وبحكم طول المجاورة، والاستهواء، والفضول، وضعف الوازع الديني، والجهل، وتراجع سلطة الدولة عن الشعوب، وتراجع سلطة العلماء وتأثيرهم... بحكم كل ذلك تسربت هذه العادات إلى المسلمين، ساعد في ذلك أيضاً تراجع العادات والتقاليد الإسلامية مع الهجوم عليها بأنها من مستحدثات الدين والبدع، فضلاً عن الشعور بالهزيمة والدونية في القرن الأخير، والشعور بتفوُّق الغرب النصراني علينا، كل ذلك كان عاملاً في تسرُّب هذه العادات إلى المسلمين وأبنائهم. زيدي على ذلك ابتعاد الدين الإسلامي - في عقائده وعباداته - عن المظاهر المحسوسة التي تستهوي العقول العامية الطفولية، وعدم اشتمال الإسلام على ميثولوجيات تربط الإلهي بالحسي والإنساني أو تجسِّده فيه، ناهيكِ عن شيوع مفاهيم مستحدثة مستنبَطة تبيح هذه التأثرات تحت ستار الديمقراطية والحرية والعيش المشترك، واتخاذ الدول الإسلامية أعياداً مشتركة يعطل فيها المسلمون والنصارى معاً ...
5. «منبر الداعيات»: كيف نحلّ الإشكالية بين إظهار سماحة المسلـم ومفاصلة الطقوس التي لها دِلالات تتعارض مع عقيدة المسلم؟
لا بد من تبيان أنه لا هذا الفريق ولا ذاك يتخلى عن معتقداته وأصول دينه تحت ستار السماحة. السماحة هي حُسن الخلُق وحُسْن التعامل مع المسلم وغير المسلم، وهــي ليست نفاقاً يظهر فيه المرء موافقاً لعـقـائـد الآخــريـن ويستبطن مخالفتهم. السماحة سلوك يظهر في اللسان والقيام بالأعمال التي يتعالى فيها على المشاعر الغريزية، وهي قرينة الحكمة والإحسان. ولا يحتاج المرء في حسن الخلق والجوار إلى أن يتخلّى عن معتقداته وتشريعاته، وليس المسلم ملزماً بـأن يترك ذلك مؤقتاً في تعامله مع النصارى واليهود وغيرهم من الأديان ثم يعود بعد ذلك لدينه وتشريعاته، قال تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من ديارهم أن تبَروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} (الممتحنة 8).
ويشتمل البِر والقسط على كل مظاهر الإحسان وعدم الإيذاء بالكذب والغِش والخيانة والفظاظة، والرحمة وإصلاح ذات البين، والمصاحبة بالمعروف، وصلة الرحم لمن كان منهم قريباً ذا رحم، وأن تعمل معه بوجه واحد وأن تجادلهم بالتي هي أحسن، بل إن العادة جرت أنّ صاحب الدين الآخر يحتقر من المسلمين مَن كان مسايِراً له على حساب دينه ويعتبره منافقاً.
6. «منبر الداعيات»: أخيراً، ماذا تقول لكل مسلم يحتفل بهذه المناسبة؟
أقول له لا: تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير. لقد أبدلك الله بهذا ديناً قيماً خالصاً من ملوِّثات وإضافات البشـر وتحـريـف المغاليـن وتـأويات المبـطلين. وأنعم عليك بنعمة لا تقدر بثمن ألا وهي نعمة القرآن الكريم كلمة الله المثلى ووحي الله الذي لم يخالطه ما ليس منه فلا تشتر بها ثمناً قليلاً، كما أنه أبدلك بذلك عيدَيْ الفطر والأضحى.
ما عليك - يا أخي المسلم - إن كنت لا تعلم هذا الدين إلا أن تتعلم عقيدته وتتفهم شريعته وتعمل بمقتضى أوامره ونواهيه، قاصداً بذلك وجه الله الكريم، متبعاً في ذلك سُنة نبيه المصطفى ، وأن تخلص لله وجهك غير مشرك به مَن هو دونه في الألوهية .. جارياً على مقتضى صراطه السويّ في العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى.. والله سبحانه وتعالى أعلى وأعلم. والحمد لله رب العالمين.
في الختام، لا يسعنا إلا أن نشكر ضيفنا الأستاذ محمد المعتصم بالله البغدادي على هذه المعلومات القيِّمة، ونسأل الله تعالى أن يرزق المسلمين حُسن الاعتزاز بدينهم والاستعلاء بإيمانهم.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن