الداعية الصالحة وَهِيبة البقاعي نموذج نسائي معاصر
التاريخ:
فى : تراجم وسِيَر
1554 مشاهدة
لم تسطِّر أمة من الأمم من مآثر نسائها ما سطّرته أمة الإسلام، فمنذ سطع نور فجرها بدعوة السيد المبارك سيدنا محمد بن عبد الله نبي هذه الأمة صلى الله عليه وسلم كان للمرأة دور الريادة الذي بدأ بإسلام امرأة كانت أول من صدّق رسول الله صلى الله عليه وسلم وآزره واتبّع دينه، هي: سيدة نساء الأمة خديجة بنت خويلد أم المؤمنين رضي الله عنها.. وعلى دربها كان المسير، من الصحابيات والتابعيات إلى نساء عصور الإسلام كافة، وحتى عصرنا هذا.. الذي، وإن ادّعى رجاله العلمانيون واللادينيون أنهم موضوعيون ينادون بحرية المرأة التي لم يعرفوها إلا منذ عقود من السنين مع تحفظنا على فهمهم للحرية، فإنه سينحني ولا شك خجلاً عندما يقرأ صفحات أمتنا المجيدة وما أعطى الإسلام للمرأة من قيمة وقدر، وما قدمت نساؤه من شرف ونصر، وما مارسته لتوعية المرأة وتثقيفها من ريادة ودور.
ومع امرأة من عصرنا نبدأ.. سيدة فاضلة صاحبة تقى وورع، ومربية عالمة، وداعية متفانية.. إنها الداعية العالِمة وهيبة البقاعي من دمشق الشام، ترجم لها الدكتور محمد مطيع حافظ في كتابه «في ربوع الشام دمشق».
طفولتها ونشأتها
ولدت السيدة وهيبة بنت محمد البقاعي عام 1322هـ، لأب في الثمانين من عمره هو الحاج محمد البقاعي، أما والدتها فهي السيدة الفاضلة نظيرة العيتي، ولقد ترعرعت في رحاب بيت يحفّه التقى والورع، وكانت والدتها تهتم بتربية الصغار وتعليمهم إذ عكفت - من خلال كُتَّاب لها - على تعليم أولاد الحي وبناته كتاب الله تعالى، وتنشئتهم النشأة الصالحة، ولم يَفُتْها مع ذلك الاعتناء بابنتها وهيبة التي توفي والدها وهي في الرابعة من عمرها، فأخذتها بالرعاية والعناية حتى انغرس في نفسها حب كتاب الله تعالى، وإذ بالابنة النجيبة تحفظ نصفه وهي في السادسة من عمرها.. لكنَّ شبح اليُتم ما لبث أن خيم على وهيبة بموت والدتها بعد خمس سنوات، لتنتقل بعدها إلى رعاية جدها.
زواجها
عندما بلغت مبلغ الشابات تزوجت الداعية وهيبة من الأستاذ عارف قنبازو، غير أنها لم تُرزق منه بذرية، فما كان منها إلا أن عرضت عليه أن يتزوج بأخرى، ولقد كان من رفعة نفسها ودماثة خلقها أن خطبت له قريبة له تناسبه، وآثرتها على نفسها حين لم تُبقِ لنفسها مع زوجها إلا يوماً واحداً في الأسبوع، كانت فيه مثالاً للزوجة المدركة لحقوق زوجها القائمة على شؤونه.. ولم تقف مآثرها عند هذا الحد؛ فَلَكَم فرحت عندما رُزق زوجها بمولوده المنتظر، فكانت تسارع إلى ضَرَّتها تهنئها وتقوم على رعايتها.
إنها بحقٍّ عُمْلة نادرة ناصعة مشرقة بالطيبة والمحبة والإيثار!
طلبها للعلم
كانت نفس الأستاذة وهيبة تهفو منذ صِغَرها إلى طلب العلم، ولم يَحُلْ يُتْمها دون ذلك ودون نشأتها الطيبة على الصلاح والتقوى والزهد، وكانت تترقب مجالس العلم لتنهل من مَعِينها، وقد تأثّرت بالنهضة العلمية للعالِم الصالح الشيخ علي الدقر؛ فسارعت إلى حضور دروسه، ولقد كان لأول درس حضرته من دروسه أثر كبير في نفسها، دفعها إلى التغيير... ولم تفوِّت مجالسه بعد ذلك. وبعد البُداءة مع الشيخ علي الدقر لازمت دروس محدِّث العصر الشيخ العلاّمة بدر الدين الحَسَنيرحمهما الله تعالى.
وكانت صلتها طيبة بعلماء عصرها، تُجِلّهم وتحترمهم وتزورهم...
تميُّز ونبوغ
وعندما لمس منها الشيخ العلاّمة بدر الدين الحَسَني النبوغ والتميُّز والصدق والهمة العالية، أوكل إليها أمرين جليلين:
· أحدهما: إدارة مدرسة «روضة الحياء» للإناث.
· والثاني: تدريس النساء في حلقات خاصة بهنّ.
في روضة الحياء
وسرعان ما لبّت السيدة وهيبة دعوة شيخها؛ فهي لم تنسَ نشأة الطفولة التي ارتوت فيها من مَعين كتاب الله، فها هي تُقبل بكل هِمّة وعزيمة على إدارة مدرسة البنات فتعطيها كل جهدها واهتمامها وحياتها.. نعم حياتها.. ستون عاماً من عمرها المبارك أمضتها في إدارة المدرسة، بذلت فيها علمها ووقتها، ولم تفتأ تستخدم أيّ وسيلة عصرية من شأنها أن تساهم في نهضة مدرستها والرقيّ بأداء طالباتها.
أحاطت السيدة وهيبة تلميذاتها بالرعاية والمحبة، وكانت تقيم لهن الاحتفالات في المناسبات الإسلامية، وكان لمعلِّمات المدرسة أيضاً نصيبٌ كبير من الرعاية والاهتمام.
دعوتها للنساء
لقد كان لدروس العالِمة الداعية وهيبة أثر واضح وتأثير كبير في نفوس من حَضرها، ولقد تميزت بأسلوبها الطيب الرقيق وبسَمْتِها الحسَن الذي استطاعت أن تستميل به قلوب النساء، وبقدرتها على مخاطبة شتى الفئات، .
أما عن جهادها في الالتزام بدروسها فقد كان كبيراً، إذ نراها - حتى في أحوال البرد القارس والثلج النادف- تقطع المسافات لكي لا تفوّت على مَنْ ينتظرنها من النساء فرصة للاستفادة من مجلس العلم.
عبادتها
لم يكن يوم هذه العالِمة الصالحة وهيبة يعرف شيئاً اسمه «فراغ»، ولم يكن يَحُول حائل دون التزامها بأورادها وعباداتها، فتنظيمها لوقتها يبدأ قُبيل الفجر بساعة حيث تقوم الليل، ثم تصلي الفجر جماعة مع النساء في بيتها، لتنتقل مع تباشير الصباح إلى مدرستها وتلميذاتها، أما طريقها فيحلو اجتيازه بذكر الله... وقد أدّت رحمها الله فريضة الحج ثماني مرات في حياتها.
ولايتُها عند الله سبحانه
ولقد كان من ولايتها ورِفعة مقامها عند ربها أن أكرمها الله بكرامات كثيرة مما يكرم به بفضله وقدرته الصالحين من عباده؛ رُوي عنها رحمها الله كرامات عديدة، منها أنها كانت ترفض أن تسجِّلَ دورسها على آلات التسجيل خشية أن يسمع صوتها الأجانب، وحدث أن حاول أحد أقاربها تسجيل درسها دون علمها، فلما أراد سماع ما سَجّل، فوجىء بأنّ المسجلة لم تلتقط ولا حرفاً واحداً.
فإذا كان هذا حالُ عالمةٍ فاضلة، أَوَليس من الأَوْلى أن تنصرف النساء عن لغو الكلام ورفع أصواتهن وضحكاتهن في الأماكن العامة؟ وماذا نقول بعد ذلك لمن تستخدم صوتها في غير رضا الله؟!
ومن كراماتها أنّ الله تعالى حَفِظ لها حواسّها عند الكِبَر، وقد امتدت عزيمتها في التعليم إلى فراش الموت، حيث كانت تلميذاتها يقرأن إلى جانبها كتاب الله تعالى، وربما يظن البعض أنها في غيبوبة، فإذا ما سمعت خطأ في القراءة بادرت إلى الإشارة إليه وتصويبه.
كما لم يُثنها مرضها عن عباداتها، فلَكَم كان يرتعش جسدها وهي على فراش المرض، فإذا قامت للصلاة ذهب عنها ما كان، وصلّت كصلاتها التي كانت تصلّيها في حالة صحتها.
دعوة ناجحة وبصَمات راسخة
مما لا شك فيه أنّ نجاح أي دعوة يرتكز على أسس عديدة، ولعلنا نلتمس من خلال المسيرة الدعوية لهذه المرأة الفذّة أسباب تميُّزها: فنراها تلازم العلماء الأجِلاّء تكتسب من علمهم، وتأخذ منهم أساليبهم في الدعوة والتعليم، كما كانت مخلصة في طاعة الله تعالى والخوف منه، إذ أدركت عِظَم المسؤولية الملقاة على عاتقها، فلم تتردد في خوض غمارها متفانية في سبيل دعوتها متوكلة على الله عز وجل... فضلاً عن ورعها في كل أمور حياتها.
تفارق الدنيا بغير متاع
تميزت هذه الداعية العابدة الصالحة وهيبة بزهدها وجُودها، فكانت تُنفق راتبها كله في سبيل الله.. ولعل غرفتها خير دليل على زهدها، فأثاثها سرير متواضع، وصندوق صغير، وقاطع من الخشب، ومِدْفأة عادية. ولقد تبرعت قبل وفاتها بقيمة دارها ووزّعت ذلك على الفقراء.. ولَقِيت ربها وهي لا تملك من متاع الدنيا شيئاً.
وفاتها
توفيت رحمها الله تعالى في ربيع الأول من العام 1415هـ الموافق له شهر آب من العام 1994م، حيث مرضت مرض الشيخوخة، وكانت قد جاوزت التسعين من عمرها.
وصفحات حياتها حقّاً مرآة مشرقة، ولقد اقتبسنا من ضياء سيرةٍ ناصعة البياض، علها تكون لنسائنا قدوة ومَثَلاً في العلم والعزم، والصبر والطاعة، والجُود والورع، والعبادة والصلاح.
رحم الله العالِمة العابدة وهيبة، وأسكنها فسيح جناته، ورزقنا نساءً من أمثالها؛ حيث حاجة الأمة الماسّة لهنّ.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة