في برزخ الحياة!
وأخيراً انتهى به المطاف أن دفعته يدان غليظتان بقوة ليرتمي بين أحضان ظلام دامس وسكون رهيب كحد السيف يقطع الأنفاس، ويقطع معه كل اتصال بعالم الحياة المزدحمة خارج هذا القبو حيث يسكن الموت متربصاً بنزلاء هذا المكان الرهيب...
أخذ يتحسس المكان الذي لفه المجهول من كل جانب بأنفاسه يعدها نفساً نفساً، فلعل الهواء يخبره عما استتر عن عينيه خلف هذا اللون القاتم الذي يخترقه شعاع خجول انبعث من أعلى الجدار.. لا يكاد يُعرف منه ليلٌ أو نهار أو صبح أو مساء!... فهو لا يرى نوراً فيعلم تفاصيل المكان ولا من يرشده فيأمن...!
أخذ نفساً عميقاً ثم زفره مؤمّلاً ألا تكون تلك الذرات التي اخترقت جدار عقله صادقة بما أدركه من المجهول الذي عايشه منذ لحظات... لا بد أنه الآن تحت الأرض بأمتار، إنها رائحة العفونة والرطوبة تملأ المكان..
مد يده إلى الجدار القريب منه فشعر بقشعريرة تسري في جميع جسده! ما هذا؟! من أي المواد بُني؟! وهل عملت به أيدي الإنس أم صاغته شعوذات الشياطين؟!
تابع خطواته بحذر شديد فاعترضه شيء صلب مرتفع عن الأرض ناتئٌ من الجدار... لا بد أنه ما يسمى «سرير»!!! لكنه هنا لن يحمل من المعنى غير اسمه ومن الشكل غير رسمه!
فتسمر في مكانه وأرخى جسده ممداً فوق ذلك الطوب، فإذا بشيء دافئ يدغدغ رجليه ويحرك في نفسه الشوق إلى الحرارة في كنف فراش وثير يداعب روحه لتنام بهدوء... ولكن أنى لهذا الشوق أن يستحيل حقيقة...
فانتفض مذعوراً ومد يده ليبعد عنه هذا الشيء.. فإذا به يمسك بغطاء لا زال يحتفظ ببعض معانيه... فتناوله ولف به جسده المتهالك، وحاول أن يسترخي لعله ينام فينال قسطًا من الراحة بعدما أنهكته الأيام الثلاثة السابقة ببلاء التحقيقات وأعيا جسده نيل السياط...
وبينما عيناه تدوران في فلك الظلام الدامس لا تعرفان نوماً ولا يهنأ له بال، أشرق مُحَيّا زوجه التي تركها خلفه تنتظر أن تضع مولودها، ولكنه سرعان ما تلاشى ليرى تلك النظرات الحائرة والأحزان مجتمعة في وجهها بعد غياب زوجها!
فماذا تراها الآن فاعلة بعدما امتدت إليه يد الاعتقال وأردَتْه في هذا المكان النائي؟! كيف ستتدبر أمرها إذا ما أصابها المخاض؟! هل ما زالت في بيتهما أم أنها آثرت الأنس بأهلها؟...
وتمضي به التساؤلات لتزيد من انشغاله وترفع من وتيرة التفكير لديه، فهو لا يحمل هم زوجه وعائلته فقط، لكنه يحمل همّاً أكبر من ذلك بكثير.
انقضت تلك الساعات بطيئة، لا يكاد يغفو حتى توقظه أفكاره تارة وتحركه مشاعره وأشواقه تارة أخرى...
فهو لا يعرف الزمن أو الوقت، فبات في برزخ حياته ينتظر المصير،بعدما جرّده زبانية هذا المعتقَل من كل ممتلكاته الخاصة، ثم رموا به هنا، من غير قطرة ماء تبعث في النفس رواء..
وكيف لأولئك أن يفكروا به كإنسان يحتاج إلى شراب وطعام؟! وهم الذين رأوه مخلوقاً خارجاً عن النظام البربري الذي ارتضته سفاهة عقولهم، وهم الذين رأوا فيه وفي أمثاله صورة فأس إبراهيم (عليه السلام) تحطم أصنامهم وتهدم أفكارهم...
إنهم زنادقة أرادوا أن يقتلوا الطهر والنقاء الذي يكشف خبثهم ومكرهم وخداعهم، فكانت المغالطات والاعتقالات لخيرة الشباب!
وبينما هو يعيد في فكره صور أحبابه وخِلانه إذ بصرير الباب الحديدي يعلن عن بداية يوم جديد، ويظهر من خلفه رجل كأنه عفريت تقمص صورة آدمي، وبلهجة الآمر يحمله على المشي أمامه ليمضي به إلى محكمة يقف فيها الظالم قاضياً ومرافعاً عن ظلمه، مشوهاً حقائق المشهد، ومبدعاً في افتراءاته...
ويمشي صاحبنا واثق الخطوة مستقر البال منتصب العزيمة، بشموخ النخيل وصلابة الحديد وثبات الجبال الراسيات، لا يحيد عن الحق المستقى من الكتاب الكريم والسنة المطهرة...
بينما هناك في غرفة بيضاء في إحدى المستشفيات يتعالى صوت وليد ذاك المرابط وحاله تقول: «نحن ورثة الأنبياء... لن نتخلى عن ميراثنا... فإن اعتقلتم منا مئة سنخرج لكم ألفاً.... فلا نامت أعين الجبناء
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة